بحث
إمكانيات تحقيق التجانس في الفتاوى
في المسائل المالية
للشيخ عجيل جاسم النشمي
مقدم
للمؤتمر السابع للهيئات الشرعية للمؤسسات المالية الإسلامية
المنعقد في مملكة البحرين
في الفترة من
22 – 23 جمادى الأولى 1429 هـ الذي يوافقه 27 – 28 مايو 2008 م
بسم الله الرحمن الرحيم
مما لاشك فيه أن الهيئات الشرعية اليوم إنما تقوم بدور رئيس في توجيه المؤسسات الماليـة الإسلامية ، وإصدار اعتماد الأدوات المالية الإسلامية وابتكارها ، فنجاح المؤسسات رهن بهيئاتها الشرعية ، ولا نبعد في القول بأن الهيئات الشرعية اليوم تمتحن في مواجهة واقع ميراث اقتصادي ضخم سمين وإن كان غثاً رسخت أقدامه ، أو أنيابه في أعماق المجتمعات ومنها مجتمعاتنا الإسلامية ، أعني به الربا الآفة المدمرة ، ولا مراء في أن المؤسسات المالية الإسلامية ، قد نجحت في ميدان المواجهة ، وتخطت مرحلة التجربة والتحوط ، وهي الآن منافس في اقتناص الفرص الاستثمارية محلياً ودولياً ، وهذه مرحلة تحتاج إلى مزيد جهد ، وعميق نظر ، وتحوط أيضاً ، فقد تختلف صور الربا وشـبهاته فيظن صحة الصورة وحقيقة الربا كامنة فيها ، وإلى جانب الربا وشبهاته ، فإن واقع السوق الدولي وآلياته وأساليبه تحتاج من الهيئات التحري ، وبذل غاية الوسع في الاجتهاد ، الأمر الذي يجعل اختلاف الفتاوى مثلباً لا يحتمل القبول ؛ ولذا كان دور الهيئات الشرعية في ضبط مسارات المؤسسات المالية معلماً واضحاً مهماً .
إن في التوجيه أو الحفاظ على المنهج ، أو حماية المؤسسات ، او ابتكار آليات استثمارية شرعية ، وقد زاد من أهمية الهيئات الشرعية ، وزاد في مسؤولياتها في الوقت ذاته ، اشتراط العديد من البنوك المركزية في البلاد الإسلامية وجـود هيئة رقابة شرعية في كل مؤسسة تعلق إسلامية عملها ونشاطها .
وإن من المسلم في تطور العمل المالي والمصرفي الإسلامي محلياً وخارجياً وتشعب أنشطة . أن تواكبه الفتاوى الشرعية الصادرة عن الهيئات الشرعية لهذه المؤسسات ، الأمر الذي تكثر فيه الفتاوى كثرة محلية وقطرية ، بل عالمية إسلامية ، ومن البدهي أن لا تتطابق الفتاوى حتى في المواضيع المتجانسة أو المتقاربة ، إذ مبنى هذه الفتاوى الاجتهادات وهو مظنة الاختلاف ، فمطلب توحيد الفتاوى المطلق مطلب عسير بعيد المنال .
ومن جانب آخر فإن مرجعيات هذه الهيئات المؤسسات مختلفة في الجملة ، ونقصد من هذا القول إن ضبط شروط الاجتهاد ، ومدى تحققها في المفتين مع اختلاف البلدان والبيئات ، وتفاوت الخبرات ، كل هذه وغيره كان له دور مؤثر في تفاوت التجانس في الفتاوى من هيئة إلى أخرى ، ولو في البلد الواحد ، الأمر الذي غدا مثار شكوى أو استغراب من التباين في الفتاوى ، وبخاصة تلك التي ينبني عليها عمل أو استثمار أو ربحية وتنافس .
من أجل ذلك كان من المهم النظر في هذا الشأن لما له من أثر سلبي على الواقع المالي .
ولا شك أن من الفتاوى ما ينبني عليها أثر وعمل ، والاختلاف فيها بين هيئة وأخرى في البلد الواحد يعني تباينا في التطبيق ، والضوابط ، والشروط ، ومن ثم التأثير في العقود ، وآليات ، أو أدوات الاستثمار في المحل المختلف فيحكمه . وقد يترتب على ذلك آثار ربما كانت بليغة في المنتجات والربحية ، وجذب العملاء ، أو طردهم .
ومن هنا كان النظر أو توحيد النظر ما أمكن في منهجية إصدار الفتاوى مهم لتحقيق التجانس بين فتاوى الهيئات الشرعية محلياً وخارجياً ، وبقدر نسبة الاختلاف تكون مساحة البعد بين الفتاوى ، وبقدر تجانسها يكون تقابلها ، وتشمل المنهجية الاجتهاد وأساليبه ، ومدى تحقق شروطه بين هيئة وأخرى ، وأيضاً فإن اختلاف المرجعيات يكون له أثر في التباعد دون التجانس ونعني بذلك استقلال الهيئة بما تتوصل إليه دون النظر إلى سابق قرارات في الموضوع ذاته ، في مجامع فقهية أو ندوات علمية ، فهذه الاستقلالية انعزالية ذات أثر في التباعد في الفتاوى دون تجانسها .
ثم إن تباعد المؤسسات المالية الإسلامية من التلاقي في أعمال استثمارية مشتركة ، وتفرد كل مؤسسة بأدواتها المالية المالية وأنشطتها يعين على التباعد في الفتاوى ، وإن كان البلد واحداً . فلو أنها تقاربت وتوحدت على نشاط موحد لكانت الفتاوى بشأنها واحدة متجانسة إلى حد كبير .
ومن أجل النظر في هذا المشكل العملي العلمي في التباعد في الفتاوى إلى حد قد تصل فيه إلى التعارض والتناقض ، كان من المهم التنبيه ووضع سبل تحقيق التجانس في الفتاوى في المسائل المالية ، وهي سبل مقبولة ولو في حد الإمكان ، جزئياً ، والطموح أن يكون تجانساً كلياً .
وقد وضعت في سبيل تحقيق هذا الهدف مسارات اقرب إلى التنبيهات والإشارات المنهجية والشرعية التي يحسن الأخذ بها ، أو يجب الأخذ بها تبعاً لحكمها وأهميتها ، وهي فيما يلي :
أولاً : توحيد منهج الاجتهاد لتحقيق التجانس في الفتاوى .
ثانياً : اعتماد المرجعيات المجمعية لتحقيق التجانس في الفتاوى .
ثالثاً : العمل الاستثماري المجمع لتحقيق التجانس في الفتاوى .
والله المستعان .
أولاً : توحيد منهج الاجتهاد لتحقيق التجانس في الفتاوى :
ينبغي لهيئة الرقابة الشرعية أن تحدد منهج الوصول إلى الفتاوى والقرارات وهو مما يجب أن يكون محل نظر وبحث واتفاق قبل أن تشرع الهيئة في عملها ، فتتجنب قدراً أو مساحة كبيرة من الخلاف حين نظر الوقائع والمستجدات ، فقد يرى بعض الأعضاء منهج التشدد في المعاملات في حين يرى غيره التيسير ، وقد يرى من تشدد في مسألة التيسير في واقعة شبيهتها ، ويرى مخالفه في الأولى خلافه في الثانية . وقد يختلف الرأي في النظر إلى النصوص دون المقاصد ، أو الاختلاف في تنقيح المناط وتخريجه أو تحقيقه ، أو التقيد برأي مذهبي تجاه آخر ، أو تأييد قرار مجمعي تجاه قرار ندوة علمية أو العكس ، أو رد الاثنين والاقتصار على اجتهاد الهيئة أو أغلبيتها . وقد يتوقف البعض في أمر مستجد ، ويفصل فيه آخرون ، وقد يختلف الرأي عند تغير أعضاء الهيئة أو اختلاف رأي الهيئة ذاتها في وقائع متشابهة ، وما إلى ذلك من أسباب الخلاف ، فإن توحيد منهج النظر ابتداء أو تقريبه فيما بين أعضاء الهيئة يوحد الرأي أو يقارب بينه حين اتخاذ القرار . وفي ذلك انتظام الفتوى والقرار ، واستقرار حال المؤسسة في أنشطة وممارسات لا تحتمل اختلاف الرأي .
ومع الأهمية الكبيرة للنص على المنهج إلا أنه لا يكاد يذكر في نظم المؤسسات المالية الإسلامية أو في لوائح هيئات الرقابة الشرعية .
ولعل المنهج الأمثل الذي ينبغي أن ينص عليه في نظام المؤسسة ، أو لائحة الهيئة هو الآتي : إن هيئة الرقابة الشرعية وهي تنظر في أعمال المؤسسة وتصدر بشأنها الفتاوى والقرارات لا تلتزم مذهباً معيناً ، وتتبع منهج الاجتهاد فيما لا نص فيه وفق ضوابط الاجتهاد المعتبرة ، وتلتزم القواعد والمبادئ التالية :
1 – الأخذ بقاعدة رفع الحرج والتيسير
2 – ومراعاة تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والأعراف .
3 – مراعاة المصالح ودرء المفاسد .
4 – الأخذ بالرخص وتتبعها ، والتخيُّر من بين المذاهب والآراء الفقهية المعتبرة .
5 – الأخذ بقاعدة سد الذرائع وفتحها ، ومنع الحيل المحرمة .
6 – مراعاة قرارات مجمع الفقه الإسلامي الدولي ومعايير هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية ، والاستئناس بغيرها .
1 – الأخذ بقاعدة رفع الحرج والتيسير فهو أصل ودليل وقاعدة في الدين مطردة في العبادات والمعاملات ، فحيثما وجـد الحرج بحيث يوقع على العبد مشقة زائدة عن المعتاد ، على بدنه أو نفسه أو عليهما معاً في الدنيا أو الآخرة ، أو فيهما معاً ، حالاً أو مآلاً غير معارض بما هو أشد منه ، أو بما يتعلق به حق للغير مساو له أو أكثر منه . فهذا الحرج يرفعه الشارع وييسر على العباد فيه . فيرفع الحكم الذي ينشأ من قبله الحرج ، أو الضيق سواء أكان تكليفياً أو وضعياً .
مراعاة تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والأعراف :
وأما اعتبار تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والأعراف فإنه باب واسع لاجتهاد هيئة الرقابة الشرعية في النظر فيما كان مبناه على الأعراف أن تجتهد فيما يناسب أعراف العصر بما لا يعارض نصاً أو قاعدة أو مقصداً شرعياً . وفي كلام مجتهدي الأمة تنبيه على أهمية مراعاة تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان ، فقد عقد ابن قيم الجوزية فصلاً واسعاً بعنوان تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد ، وقال : ” ومن أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم فقد ضل وأضل ، وكانت جنايته على الدين أعظم من جناية من طبب الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطب على أبدانهم ، بل هذا الطبيب الجاهل ، وهذا المفتي الجاهل أضر على أديان الناس وأبدانهم ” ([1]) وذكر أمثلة كثيرة من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم ، وعن الصحابة رضي الله عنهم .
وقال القرافي المالكي : ” كل ما هو من الشريعة يتبع العوائد يتغير الحكم فيه عند تغير الحكم فيه عند تغير العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة ، وليس هذا تجديداً للاجتهاد من المقلد حتى يشترط فيه أهلية الاجتهاد ، بل هذه قاعدة اجتهد فيها العلماء وأجمعوا عليها “ .
ويقول الإمام الونشريسي :
” إن ما جرى به عمل الناس وتقادم في عرفهم وعاداتهم ينبغي أن يلتمس له مخرج شرعي ما أمكن على خلاف أو وفاق ” ([2]) .
وقال : ” العرف أحد أصول الشرع ” ([3]) .
وقال : ” العرف أصل في موضع الإشكال ” ([4]) .
وقال : ” الفتاوى تختلف عند اختلاف العوايد ” ([5]) .
وقال أيضاً : ” الركـون إلى العوائد والأعراف أسلوب معتاد عند الأئمة من غير خلاف ، وقد وقع لهم ذلك في أبواب من الفقه كالنقود والسلم والمرابحة والآجال ، والوكالة والإقرار والهبات والنذور والأيمان والوصايا والأوقاف. وكتب أصحابنا مشحونة ملأى بجزئيات ذلك ” ([6]) .
3 – مراعاة المصالح ودرء المفاسد :
مراعاة المصالح وجلبها والمفاسد ودرؤها ، منهج المجتهدين على مر تاريخ الفقه ، ولا مزيد على ما قاله فيها ابن القيم : ” الشريعة مبناها وأساسها على الحِكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد ، وهي عدل كلها ، ورحمة كلها ، ومصالح كلها ، وحكمة كلها ، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور ، وعن الرحمة إلى ضدها ، وعن المصلحة إلى المفسدة ، وعن الحكمة إلى العبث ؛ فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل ([7]) .
والنظر في المصالح يستدعي النظر في العلل تبعاً للقاعدة ” الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً ولقواعد :
” زوال علة الحكم موجب لزواله ” ([8]) .
” إذا زالت العلة زال الحكم ” ([9]) .
” العلة تدور مع معلولها وجوداً وعدماً ، فحيث وجدت العلة وجد الحكم ، وحيث تنتفي العلة ينتفي الحكم ” ([10]) .
ولأهمية هذا الموضوع عقد الإمام عز الدين بن عبد السلام فصلاً في مناسبة العلل لأحكامها وزوال الأحكام بزوال أسبابها . وبصدد عرضه يقول :
فالمصالح باب تشتد الحاجة إليه في المعاملات عامة وفي القضايا المستجدة خاصة ، لكن بضوابط المصلحة ، لا مطلق منفعة . فكل ما يجلب مصلحة أو يدفع مضرة مقصودة للشارع فهذه المصلحة ، على أن المصلحة قد يشهد الشرع لاعتبارها أو يشهد لبطلانها ، أو لا يشهد لها الشرع بالاعتبار ولا بالبطلان ، فإن شهد الشرع لنوعها فهو القياس ، وإن شهد لجنسها فهي المصلحة المرسلة على أن تكون المصلحة ملائمة لجنس تصرفات الشـرع .
4 – الأخذ بالرخص وتتبعها والتخير من بين المذاهب والآراء الفقهية المعتبرة :
فهذا مما لا غنى عنه لاجتهادات هيئات الرقابة الشرعية . بل هي الفقه حقاً وقد ورد عن سفيان الثوري رضي الله عنه أنه قال : ” إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة ، فأما التشديد فيحسنه كل أحد ([11]) والرخصة أصل كلي مثل رفع الحرج كما قال الشاطبي : ” الرخصة مستمدة من قاعد رفع الحرج ، كما أن العزيمة راجعة إلى أصل التكليف ، وكلاهما أصل كلي ” ([12]) . فالرخصة بعامة هي : ما شرع من الأحكام لعذر شاق ، استثناء من أصل كلي يقتضي المنع مع الاقتصار فيه على موضع الحاجة ” وينبغي أن تعنى هيئات الرقابة الشرعية بالرخص الفقهية بضوابطها التي حررها وحددها بدقة ومنع من التلفيق فيها قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي في دورته الثامنة المنعقدة في بروناي دار السلام من 1 – 7 محرم 1414 هـ – 21 – 27 يونيو 1993 م .
أما تخير الأحكام من بين أقوال المذاهب المتعددة المختلفة فهو أجوز من حكم الفقهاء في جواز تتبع الرخص ، فتخير الأحكام قد يبنى على اعتماد الدليل الأقوى ، ولا خلاف في جوازه ، بل هـو الواجب على القادر على النظر في الدليل ، وقد يبتني الحكم على مصالح معتبرة في هذا العصر ، وإن لم تكن كذلك في أعصر سابقة ، وقد تقتضيها أعراف سليمة ، أو أوضاع اجتماعية تجعل من الجمود على مذهب واحد حرجاً وعسراً في الحكم ، وتضييقاً حيث تناسب أو تلزم السعة ، فالانتقال عن ذلك إلى حكم أيسر وأوسع وأصلح جائز وأولى إن ××××× كأن هنا كلام ساقط والله أعلم ×××××× صاحب المال عند مالـك ، فهـذه الصـور كلها : الدفع وسيلة إلى المعصية بأكل المال ، ومع ذلك فهو مأمور به لرجحان ما يحصل من المصلحة على هذه المفسدة ” .
ثم إن الذريعة قد يكون مطلوب فتحها وهي على درجات فيقول القرافي : ” اعلم أن الذريعة كما يجب سدها يجب فتحها ، وتكره ، وتندب ، وتباح ، فإن الذريعة هي الوسيلة ، فكما أن وسيلة المحرم محرمة فوسيلة الواجب واجبة ، كالسعي للجمعة وموارد الأحكام على قسمين : مقاصد ، وهي المتضمنة للمصالح والمفاسد في أنفسها ، ووسائل ، وهي الطرق المفضية إليها ، وحكمها حكم ما أفضت إليه من تحريم أو تحليل ، غير أنها أخفض رتبة من المقاصد في حكمها ، والوسيلة إلى أفضل المقاصد أفضل الوسائل ، وإلى أقبح المقاصد أقبح الوسائل ، وما يتوسط متوسط ” .
ثانياً : اعتماد المرجعيات الفقهية المجمعية لتحقيق التجانس في الفتاوى :
ونقصد من ذلك مرجعية التوثيق والاجتهاد الجماعي ، ونخص هنا بالذكر قرارات المجامع الفقهية والندوات ، والمعايير الشرعية للمجلس الشرعي لهيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية .
فينبغي لهيئات الرقابة الشرعية أن تعتد بما تنتهى إليه المجامع الفقهية المعتبرة في العالم الإسلامي ، فإنها تمثل الاجتهاد الجماعي إلى حد كبير ، فمجمع الفقه الإسلامي الدولي مثلاً يمثل الرأي الجماعي أو الاجتهاد الجماعي لما يضمه من خيرة علماء الأمة يمثلون أصقاعها وبلدانها ومذاهبها المختلفة ، ويتم القرار بعد نظر وترو وبحث ودرس ونقاش فلا يسوغ الاجتهاد على خلاف هذا الرأي ، وإهمال كل جهد بذل في سبيل الوصول للحكم ، فرأي الجماعة أقرب للاطمئنان من رأي فرد أو هيئة للرقابة محصورة العدد ، أو ندوة أو مؤتمر علمي محدود ، ولذا ينبغي أن يكون الرأي المخالف آخذا بالاعتبار قدر من يخالف ، ويقوى على إقامة حجته ومناقشة حجج المجمع .
وكذا الندوات المتخصصة ينبغي أن يكون لقراراتها أهمية واحتراماً لما تتوصل إليه من مقررات ، ثم تقديم الأبحاث المعمقة فيها ، وأما معايير المجلس الشرعي لهيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية ، فلأنها قد عنيت بالجمع بين الفقه والواقع ، وحظيت المعايير التي أصدرتها على رضا وقبول علماء الأمة ومؤسساتها المالية الإسلامية كما حظيت بقبول إسلامي وعالمي لتوفيرها معايير محددة يمكن على وفقها قياس أعمال المؤسسات المالية الإسلامية على أساس موحد ، وهذا من الضرورة بمكان لتعمل المؤسسات المالية الإسلامية في الأسواق والبورصات المحلية والعالمية بفقه المعاملات الإسلامية وحدة واحدة تؤثر بمنهجها مع مرور المعايشة .
وتجدر الإشارة إلى أن المنهج أو الآلية التي التزمت بها الهيئة في إصدار المعايير منهج علمي دقيق يحقق الاطمئنان العلمي شرعيا ومحاسبيا واقتصاديا وقانونيا ويجعل الهيئة قادرة فعلا على تحقيق أهدافها القريبة والبعيدة ، وهي أهداف وضعت بدقة بعد دراسات ومناقشات ، ونظرة إليها تكفي لبيان أهمية هذه الهيئة بأهدافها ومعاييرها ، فقد نصت المادة الرابعة من النظام الأساسي المعدل على أن الهيئة تهدف في إطار أحكام الشريعة الإسلامية إلى :
1 – تطوير فكر المحاسبة والمراجعة والمجالات المصرفية ذات العلاقة بأنشطة المؤسسات المالية الإسلامية .
2- نشر فكر المحاسبة والمراجعة المتعلقة بأنشطة المؤسسات المالية الإسلامية وتطبيقاته عن طريق التدريب وعقد الندوات وإصدار النشرات الدورية وإعداد الأبحاث والتقارير وغير ذلك من الوسائل .
3- إعداد وإصدار معايير المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية وتفسيرها للتوفيق ما بين الممارسة المحاسبية التي تتبعها المؤسسات المالية الإسلامية في إعداد قوائمها المالية ، وكذلك التوفيق بين إجراءات المراجعة التي تتبع في مراجعة القوائم المالية التي تعدها المؤسسات المالية الإسلامية .
وهذه الثلاث أهم الأهداف مع وجود أهداف أخرى مهمة أيضاً ذكرت في النظام .
وهذا التنويه المركز على هيئة المحاسبة لا يعني التقليل من شأن المجامع الفقهية الأخرى في العالم الإسلامي والمؤتمرات والندوات العلمية المتخصصة في بعض القضايا الفقهية والمستجدات ونحوها ، بل أهميتها كبيرة ويستأنس بقراراتها ويتحرج من الخروج عما انتهت إليه وتؤخذ بالاعتبار تلك القرارات حين نظر هيئات الرقابة الشرعية في مواضيعها وإن عارضتها فبالدليل والحجة والمناقشة للرأي الآخر ، ولو عقدت في سبيل نصرة رأيها ندوة أو مؤتمرا على حجم الندوة أو المؤتمر لكان حسنا وميزانا علميا مقبولا للوصول إلى أقوى الآراء بأقوى الأدلة .
ثالثاً : العمل الاستثماري المجمع لتحقيق التجانس في الفتاوى :
لا ريب أن اتصال الهيئات الشرعية – ولو في البلد الواحد – أصبح ملحاً ، ومهماً لتبادل وجهات نظر الاجتهاد في بعض القضايا محل الخلاف ، وأحسب أن هذا التلاقي ضعيف جداً ، إن لم يكن منعدماً ، اللهم إلا من لقاء ندوات تقدم فيها أبحاث في المشكل من القضايا المستجدة ، وتخرج بقرارات ، وقد لا يلتزم بها الكافة .
والذي يرصد مسير الهيئات ، ويلتقط الفتاوى الخلافية يجد أن التنسيق لانسجام الفتاوى مهم للحفاظ على سمعة الهيئات الشرعية ، ومن ثم سمعة المؤسسات المالية الإسلامية ، وهو في الوقت ذاته قوة وتحصين لما يصدر عنها من فتاوى ، وقد يجد العامة – بل قد وجدوا – في اختلاف الفتاوى من هيئة وأخرى مادة للطعن ، فيضعفون هيئة ويرفعون أخرى ، وقد يكون أعضاء الهيئة عرضة لغمزهم ، وقد يجدون مندوحة ومسوغاً يسند ويقوى أقوالهم إن في قول أو تصرف أحد الأعضاء ، أو في مجموعهم .
ولا جدال أن الاختلاف في الفتاوى له أسبابه المستندة إلى أدلة وبراهين يقتنع بها من أصدرها ، إلا أن العامة ، بل كثير من المثقفين يخوضون في هذا من غير علم أو هدى ، وهذا يعود سلباً على سمعة الهيئات والمؤسسات المالية الإسلامية ، فلو كان البدء بالتنسيق بين هيئات الفتوى في القطر الواحد فإنه بداية مناسبة ومهمة ، ولعل من أهم أهداف هذا التنسيق توحيد النظر أو تقريبه للانسجام والتوافق أو التقارب بين الفتاوى ، وهو في الوقت ذاته يحقق هدفاً مهماً أيضاً سبق التنويه به ، وهو توحيد الرأي والقرار في بعض القضايا الهامة من الناحية الشرعية ، في مواجهة ضغوط لإبطالها أو التضييق بشأن تنفيذها ، قد تكون ضغوطاً من البنوك المركزية ، أو من البنوك التقليدية .
ومن صور هذا التنسيق لانسجام الفتاوى وتوحيدها الدخول في العمل المجمع الاستثماري المشترك ، فتشترك الهيئات في إصدار حكمها مجتمعة ، أو كلا على حدة ، وفي الحالين يكون القرار أو الفتوى متقاربة أو متطابقة سواء في العقود ، أو في هيكلة الاستثمار ، وما إلى ذلك ، وهذا يعطي لعمل المؤسسات مصداقية أقوى ، سواء أمام البنوك المركزية ، أو في المشاركات المجمعة مع البنوك التقليدية لتلتزم بالشروط الشرعية .
وفي هذا التوحد والتنسيق تجربة ناجحـة رائـدة في دولة الإمارات العربية المتحدة ، في تجمع الهيئات الشرعية كلها فيما أطلق عليه ” لجنة التنسيق الموحدة ” وغايتها إبداء الرأي والحكم الشرعي في المنتجات والاستثمارات المشتركة بين مؤسساتها ، أو بينها وبين البنوك التقليدية ، وقد كان لها دور فاصل في قضايا وقفت فيها البنوك التقليدية والبنوك المركزية تجاه المؤسسات المالية الإسلامية ، أو بمعنى آخر لم يكن موقف هذه الجهات متوافقاً مع الضوابط الشرعية ، أوالقيام بتوضيح جوانب شرعية لها فهمت على غير وجهها الصحيح ، فلا شك أن مثل هذا التوحد والانسجام في القرار والرأي قوة للهيئات وللمؤسسات المالية الإسلامية .
([1]) أعلام الموقعين . انظر من بداية الفصل 3/14 ، الطبعة الأولى ، مطبعة السعادة ، 1374 هـ ، 1955 م ، بمصر .
([7]) إعلام الموقعين (3/14) ، الموافقات للشاطبي (5/42) بدراسة الأستاذ مشهور بن حسن آل سلمان ، الطبعة الأولى ، دار ابن عفان ، 1417 هـ ، 1997 م ، المملكة العربية السعودية .