الضرورة وإباحة المحرم
24 مايو، 20072,785 زيارة الحظر والإباحة
السؤال :
“الضرورات تبيح المحظورات” هذه الكلمة اتخذها البعض ليحل ما حرم الله استناداً لهذه القاعدة، فما هي الضوابط الشرعية لهذه القاعدة الفقهية؟
وهل كل إنسان يستطيع تقدير الضرورة؟
الجواب :
يسرف بعض الناس على أنفسهم حين يتوسعون في الحرام، حتى يكون أهون عليهم من المكروهات، بل المباحات، متحججين بأن الذي دفعهم لهذا هو الضرورة. ولما تسأله: ما هي الضرورة؟، فإن كان الموضوع متعلقا بالربا -وهذا أكثر ما يقع فيه الناس اليوم باسم الضرورة- قال: إنه بحث عمن يقرضه فلم يجد، وهو محتاج لتكميل بناء بيته، أو لدفع مصاريف أبناءه الدراسية، أو لسداد ديونه، وقد يقول: إنه بحاجة إلى سيارة، أو أدوات كهربائية ضرورية، مثل المكيفات صيفاً، ونحو ذلك. وإن كان الأمر متعلقاً بالأخلاق والعفة، كمن يقع في الزنا ويقول: إنه مضطر، لأنه لا يتمكن من الزواج لغلاء المهور، فيضطر إلى الزنا، وقد يدفع الرشوة ويقول: إنه مضطر، لأن السوق يريد ذلك، وإلا فعليه أن يخرج من السوق، ولا يتسنى له الحصول على المناقصة إلا بالرشوة، ونسي أنه يعالج الخطأ بالحرام. وهذه أمثلة ووقائع نسأل عنها، ويظن المتورط فيها أنه يقدم على أمر حلال؛ لأن الضرورات تبيح المحظورات.
وهذا وهم يتحمل صاحبه الإثم، بل إثم كبيرة من الكبائر، سواء أكان ذلك عمداً أو جهلاً أو تجاهلاً؛ لأن هذه المحرمات من المعلوم بالدين بالضرورة، فإن من يفتي نفسه بأن ما أقدم عليه ضرورة، ينبغي أن يعلم ما هي الضرورة، ومتى تتحقق الضرورة، وما هو قدرها، ومن يقدرها، ومتى ترتفع هذه الضرورة، وما هي مواقع الضرورة.
فإن لم يكن عالماً بذلك فليس له أن يفتي نفسه أو غيره بحل الحرام بغطاء الضرورة.
ولقد قرر الفقهاء فهماً من قوله تعالى: (فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم) [المائدة:3]، وقوله تعالى: (إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم) [البقرة:173].
إن الضرورة المبيحة للحرام هي التي يخاف التلف والهلاك إن ترك الأكل فيما يؤكل لحفظ الحياة، أو أخذ الربا إن لم يأخذه يهلك، وكما قال السيوطي: الضرورة بلوغه حدّاً إن لم يتناول الممنوع هلك أو قارب، وهذا يبيح الحرام.
وبعض الناس يقول: إنه يتوقع أن تحدث له مشكلة إن لم يأخذ قرضاً من البنك مثلاً، أو أن تجارته ستخسر، فيقدم على القرض الربوي، وهذا خرق لشرط من شروط تحقق الضرورة، فلا يعتبر ضرورة ما كان متوقعاً غير قائم، ولا حادث فعلاً. فلا يصح أن يقول: أنا أشرب الخمر لأن فلاناً سيقتلني غداً إن لم أشرب الخمر.
ومن خوارق الضرورة المعتبرة من يستعجل باستباحة الحرام بحجة الضرورة، وأمامه أبواب من الحلال لم يطرقها، فيمكنه طلب قرض حسن من أشخاص لم يسألهم أو يطرق بابهم، أو عنده من الأعيان ما يستغني عنه، كمن يحتاج إلى سيارة وعنده اثنتان أو ثلاث، بل قد يكون عنده أكثر من ذلك. وقد يركب سيارة فارهة تعدل قيمتها ثلاث سيارات، فهذا كان عليه أن يبيع ما يملك حتى يحصل على ما يحتاج. ثم إن غالب المرابين المحتجين بالضرورات المقصودة للتجارة، والتجارة ترفيه بالنسبة للضروريات، فالضرورات المقصودة هي ضرورات ما يبقي على الحياة من المأكل والمشرب، حتى الوظيفة التي هي مصدر رزق الموظف لا يسعه الاقتراض بالربا لأن المرتب لا يكفيه، بل لا يسعه أن يعمل في بنك ربوي بحجة أنه لا مصدر رزق له سواه وهو جالس لا يبحث عن عمل، فهذا حد الضرورة أن يعمل بنية توفير سد الرمق، على أن يبحث عن وظيفة أخرى فإن كان عنده سعة بدون الوظيفة لم يجز له أن يستمر. وحتى يأكل اللحوم في بلاد غير المسلمين ويحتج بالضرورة، مع علمه بأنها ذبحت على غير الطريقة الشرعية، مع أن له بدائل من الأغذية، كالسمك وأكل اللحم لا يتوقف على تركه الهلاك.
ومن خوارم الضرورة أن تجد بعض من يستحل المحرم باسم الضرورة، يتوسع في الحرام وينسى ظرف الضرورة الفعلي، فقد يكون في ضرورة فعلاً لمأكله ومشربه ومأكل أولاده وزوجه ولا يجد إلا القرض الربوي، وقد بذل جهده للحصول على عمل، أو قرض حسن فلم يجد إلى ذلك سبيلاً، فإذا أخذ قرضاً أخذ بأوسع مما يحتاج ثم يكرر ذلك، وكأن باب الضرورة لا حد له. وقد تقرر فقهاً أن "الضرورة تقدر بقدرها"، وقدرها في المأكل والمشرب سد الحاجة. وأنه إذا زال سبب الضرورة حرم التزود وتكرار الفعل، حتى قال الفقهاء: إن المضطر لا يأكل من الميتة إلا قدر سد الرمق، ولا يباح له الشبع لقوله تعالى: (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه).
وقد يكون الشيء ضرورياً فعلاً، ولكنه لا يدخل في حد الضرورة الشرعية، فمن يستطيع دفع أجرة مسكن لا يحل له أخذ قرض لشراء مسكن، ولو كان المسكن ضرورياً، لكن الضرورة -وهي حد الهلاك- لا تتحقق هنا.
ومن خلال التجربة أجد أن أكثر من يحتج في استباحة الحرام بالضرورة حاله لا يتعدى الحاجة، بل حاجته ليست من قبيل الحاجات التي تنزل منزلة الضرورة، ومرجع ذلك أنهم لا يفرقون بين الحاجة والضرورة، فالضرورة ما بيّنا فيما كان تركه يسبب الهلاك أو يقاربه.
وأما الحاجة: فما كان تركه يسبب حرجاً ومشقة، ولا يصل حد الهلاك؛ كالجائع الذي لو لم يأكل لا يهلك بل يشعر بجهد ومشقة محتملة، فهذا لا يباح له المحرم حتى يصل به الأمر إلى حد الضرورة، وهو خوف الهلاك، أو غلبة الظن بذلك.
فتجد من هؤلاء من يريد التوسعة في المأكل والمشرب ناظراً إلى غيره ممن وسع الله عليهم، أو يريد أن يوسع مسكنه أو يرممه أو يجمله ونحو ذلك.
واختم هذه الكلمة إلى إخواني وأخواتي المسلمين ممن يبتغون مرضات الله من المؤمنين بصلواتهم وعباداتهم أن يحرصوا على اللقمة الحلال، فلن يموت أحد حتى يستكمل رزقه, وأن المسلم والمسلمة بما حباهم الله من النعمة لا يتطلعون إلى المحرمات توصلاً إلى التوسع والترفه، فمن كان في ضائقة، فليتق الله (ومن يتق الله يجعل له مخرجاً، ويرزقه من حيث لا يحتسب) [الطلاق:2-3] ولا يتتبع سبيل المال إلا بطريق حلال، فلا يجوز التوسل بالحرام للحرام، كما لا يجوز التوسل بالحلال إلى الحرام، فإن مقدمة المحرم محرمة.
وأن يرفع المسلم والمسلمة من قاموسهما كلمة الضرورة، فإن غالب ما يدعيه الناس من الضرورات هم الذين أوقعوا أنفسهم في الضيق، حتى ظنوا أنهم في ضرورة، وأنه يسعهم الترخص في الدين، وأن الدين يسر، وأن الله غفور رحيم. وهذا كله صحيح؛ لكنه في غير هذا الموضع. ومن الناس من يوقع نفسه في معصية، ثم يقول: إنه في ضرورة، وأنه يريد الرخصة، وقد قرر الفقهاء أن الرخص لا تناط بالمعاصي؛ فمن سافر لمعصية الله لا يجوز له أخذ رخص السفر، من الفطر وجمع الصلاة.
واعلموا وفقكم الله أن الربا قد نزلت فيه أشد آية في كتاب الله: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين، فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله)[البقرة:278-279]، ولولا رحمة الله لهلكنا، فإن قومنا يفاخرون بصروح الربا شامخة تناطح السحاب إعلاناً للحرب على الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم جهاراً، فهي حرب لا تكافؤ فيها، ولكن رحمة الله واسعة، لكنه إذا أخذ القرى الظالمة فإن أخذه أليم شديد، وهي دعوة إلى ولي الأمر وولاة الأمر أن يتقوا الله فينا، فإن الله سائلهم: حفظوا أم ضيعوا.
2007-05-24
شاهد أيضاً
الوطن والمواطنة في ميزان الشريعة الإسلامية
بحث التحوط في المعاملات المالية
تحويل البنوك التقليدية إلى بنوك اسلامية