كلمة اللجنة المنظمة
للمؤتمر الفقهي الثاني
للمؤسسات المالية الإسلامية
للشيخ عجيل جاسم النشمي
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد الله رب العالمين الذي أحل البيع بإطلاق وحرم الربا بإطلاق ، والصلاة والسلام على رسوله المجتبى محمد ( ، الذي فصل حلال البيع وحرام الربا ، وقرر قاعدة الحلال والحرام والشبهة ، وجعل استبراء الدين في اجتناب الشبهات ، وفصلت السنة المطهرة أهم أنواع البيوع وشروطها وضوابطها ، ما يحل من ذلك وما يحرم .
ثم كانت مهمة الأئمة المجتهدين أن توسعوا في استنباط الأحكام من أدلتها التفصيلية وبينوا دلالة ألفاظ الكتاب والسنة ، واستخرجوا القواعد الأصولية والفقهية ، وخرجوا عليها الفروع وفصلوا في الأشباه والنظائر ، وأولوا باب المعاملات أهمية خاصة إذ هو مرجع معايش الناس في حياتهم وتعاملاتهم وعلاقاتهم مما لا يستغنى عنه بحال . فكان تنمية المال بطرق التجارة محورا أساسيا وحضاريا . واتفق الفقهاء ابتداء على مفهوم التجارة وعبروا عن هذا المفهوم في كتبهم ومنه ما قال ابن خلدون :” التجارة تنمية المال بشراء البضائع ومحاولة بيعها بأغلى من ثمن الشراء ، إما بانتظار حوالة الأسواق ، أو نقلها إلى بلد هي فيه أنفق وأغلى ، أو بيعها بالغلاء على الآجال ” فلا مال بلا عمل “ والكسب هو قيمة الأعمال ” وفي سبيل تجارة الحلال بالجمع بين المال والعمل استنبط الفقهاء أنواع البيوع والمضاربات والمشاركات ، وتوسعوا في ذلك توسعا يناسب واقع الدولة الإسلامية ، وجعل ذلك من الاقتصاد الإسلامي مادة حضارية مبنية على أسس متينة من الفقه والعدل والمساواة بمرجع مجمل الكتاب ومبين السنة ومفصل استنباط أهل العلم الراسخين فيه .
أيها الحضور الكرام :
بمجموع ذلك انطلقت حضارة الإسلام في المال وتوظيفه وسعدت به البشرية في الدولة الإسلامية المترامية الأطراف وهي يومئذ أعظم وأوسع حضارة عرفها التاريخ . حتى خلف الفقهاء السابقون تراثا ضخما تراكم على مرحوالي ثلاثة عشر قرنا ، وكان بحق مفخرة المسلمين بإقرار وشهادة خصومه بأنه تراث حضاري ليس له مثيل في حضارات سالفة ، بل إن أوروبا قد بنت جزء كبيراً من نظمها وقوانينها الإدارية والتجارية على هذا الموروث الفقهي وفي ذلك يقول المؤرخ الفرنسي “سيدو” : ” إن قانون نابليون مأخوذ من كتاب فقهي في مذهب الإمام مالك هو شرح الدردير على متن خليل ” ويقول المؤرخ الإنجليزي “ويلز” : ” إن أوربا مدينة للإسلام بالجانب الأكبر من قوانينها ” ويقول العالم الشهير “غوستاف لوبون” : ” إن المسلمين هم سبب انتشار المدنية في بلاد أوربا ” لكن هذا التراث الفقهي والاقتصادي منه بخاصة قد غيب عن واقع الأمة منذ نحيت شريعة الله عزوجل ، وحل مكانها القوانين الوضعية وهي فترة فراغ شرعي تشريعي منذ حوالي عام 1854 م في عهد السلطان عبد المجيد وهو التاريخ الفعلي لا الرسمي لسقوط الخلافة الإسلامية ، أما السقوط الرسمي العلني فكان على يد كمال أتاتورك عام 1924 م حيث أعلن سقوط الخلافة الإسلامية رسميا أمام العالم .
أيها الحضور الكرام :
لقد شاء الله تعالى ألا يطول هذا الفراغ والبعد فقيض لإحياء المعاملات المالية الإسلامية، وإحياء الاقتصاد الإسلامي اليوم هؤلاء العلماء الفقهاء المعاصرين الذين استطاعوا الربط بين الماضي الفقهي والحضاري ، وواقع المال اليوم وتحقيق رغبة شاملة عامة في صحوة المسلمين بعد هذا السبات والتبعية الاقتصادية يريدون عبادة ربهم بالمال الحلال وخروجاً من إفك الربا وآثامه ، والمحاربة مع الله تعالى ورسوله ( صفا واحدا لحرب الربا آفة اقتصاد العالم بأسره . فبدأت بذلك مسيرة جديدة على ساحة العالم الاقتصادية هي مسيرة المؤسسات المالية الإسلامية ونعني بها البنوك والمصارف والشركات الإسلامية ، التي لم يتجاوز عمرها اليوم أربعين سنة .
هذه مقدمة ضرورية للدخول في كلمتي التي خصصتها إضاءات وملاحظات على هذه المسيرة بغية تأكيد الصحيح منها وتقوية مساره وتوسيعه ، والتنبيه على الخطأ ومجانبة صحيح الطريق إلى معوجه أو ما كان على خطر ذلك في مسير بعض هذه المؤسسات المالية الإسلامية .
ويمكن تحديد هذه المسيرة في مراحل ثلاث :
المرحلة الأولى : مرحلة التأسيس والتأصيل :
أيها الحضور الكرام :
إن الراصد لمسيرة النمو في المؤسسات المالية الإسلامية يدرك بدايتها الموفقة الوئيدة المتحفظة يوم أن بدأت وليدا بين عمالقة المال وسوق الأوراق والعملات ، وبين المصطلحات الاقتصادية الراسخة على مر سنوات الفراغ تلك . فكان الطرح الفقهي الآمن بطبيعته وآليته هو أفضل سبل الدخول في هذا السوق ، فكانت أدوات المضاربات والمشاركات ، ثم دخلت المرابحات ، فكانت هذه أدوات العمل ومفتاح السوق وجلب العملاء الراغبين ترشيد أموالهم والراغبين تطهيرها بسلكها مسلك التجارة الإسلامية ، أو الاقتصاد الإسلامي الذي يعتمد التبادل العيني والمشاركة والمخاطرة سبيلا للتنمية الاجتماعية والفردية .
وأثناء بدايات هذه المسيرة لاح واضحا أن السوق أوسع وأكبر من أن تستوعب سيولته وأنشطته هذه الأدوات ، وأن المرابحة وإن توسع فيها إلا أن آثار ذلك كان سلبيا على المؤسسات ومؤثرا في مسيرتها فجاءت التوصيات بالتقليل من المرابحات , وكان أن نشطت حينئذ حركة البحث والمؤتمرات المجمعية والندوات في توسيع دائرة البحث والعمل والنشاط الاقتصادي فكان حصيلة ذلك صدور قرارات وفتاوى كلها تصب في دائرة التطوير والبدائل ، وهذا ما أسلم هذه المرحلة إلى بدايات المرحلة الثانية .
أيها الحضور الكرام :
المرحلة الثانية : وهي مرحلة توسيع الأدوات المالية والتعايش مع البنوك التقليدية فإن نجاحات وعوائق المرحلة الأولى كانت دافعا ملحا لتطوير العمل وتوسيع أدواته كيما تستجيب إلى متطلبات المرحلة ، واستيعاب السيولة ، بله المنافسة بعد معالم النجاح الواضحة التي تمثلت في هجرة سيولة ضخمة من البنوك التقليدية إلى حسابات المؤسسات المالية الإسلامية من بنوك ومصارف وشركات الأمر الذي زاد من مسئولية الفقهاء والافتصاديين والمحاسبين في إطار الفقه الإسلامي فنشطت حركة المؤتمرات والندوات وإثراء الساحة بأبحاث معمقة وكتب فقهية ورسائل علمية تعالج الواقع وتضع البدائل والحلول . فكانت جهودا مباركة أثمرت تطويرا ملحوظا تمثل في عقود السلم والسلم الموازي ، والاستصناع والاستصناع الموازي ، والإجـارة والإجارة المنتهية بالتمليك ، والمتاجرة بالعملات ، وبطاقات الحسم ، وبطاقات الائتمان ، والحوالة المصرفية ، والأوراق المالية ، والأوراق التجارية ، وغير ذلك . وكان هذا الثراء القديم الجديد دفعة قوية لقيام المؤسسات المالية بدورها وتحمل مسئوليتها بصفتها وكيلا أو مضاربا أو شريكا الأمر الذي حقق للمؤسسات سمعة ومكانة سامية وربحية عالية لمساهميها ومودعيها فاقت ما عليه البنوك التقليدية . كما شهدت إبانها تنمية ونهضة عمرانية وحركة تجارية لاينكرها إلا مكابر. فكانت هذه المرحلة بحق أخصب وأهم المراحل المنتجة التي حافظت على المنهج الفقهي في المعاملات والعقود ، مع تقديم بدائل أشفت غليل المستثمرين في الجمع بين الحلال والربحية .
أيها الحضور الكرام :
إن هذه المرحلة هي التي لفتت أنظار الراصدين محليا وعالميا ، بل دعت العديد من البنوك التقليدية لتعيد النظر في مسيرتها إما بالتقرب من المؤسسات المالية الإسلامية في مشاركات ، أو فتح النوافذ . ومن صدق منها غير وجهته كلها شطر المسجد الحرام . وهذه المرحلة هي مرحلة الثبات أو إثبات المؤسسات المنهجية الاقتصادية الإسلامية وتثبيت هويتها ، مرحلة التعريف بالمنهج وتميزه ، وهي مرحلة كانت تحتاج إلى الاستمرار مع تحفظ عن التوسع حتى يحين وقته المناسب . هذا كان المؤمل لكن ضغط الواقع كان أقوى من ذلك ، فلم تطل بنا مرحلة التوسع والتعايش المتميز حتى استدرجت المؤسسات المالية الاسلامية لتسلم نفسها إلى المرحلة الثالثة .
فكانت المرحلة الثالثة : مرحلة المماحلة- المماكرة والمكايدة – والحيل والتشبه :
بدأت هذه المرحلة في تقديرنا استجابة لضغط الواقع التقليدي من جانب محليا وعالميا، ومن جانب آخر ضخامة السيولة لدى المؤسسات المالية الإسلامية وحاجتها إلى التصريف والتوظيف والاستثمار في منتجات ربحية تحافظ على مساهميها ومودعيها فكان التفكير في العمل على محاكاة ومماحلة البنوك التقليدية والتطلع للدخول في أسواق البورصات العالمية ، وربط العلاقات مع الشركات العالمية العملاقة ، كل ذلك في سبيل إيجاد أسواق تستوعب السيولة ولا شك أن هذه ضغوط منطقية واقعية ما دامت هذه المؤسسات تعمل في واقع له حضور وتاريخ وأعراف . لكن هذه الضغوط كانت تحتاج في مواجهتها ومعايشتها إلى أمرين : إيجاد البدائل على وفق الثوابت الاقتصادية الإسلامية ، وتأسيس العلاقات من منطلق التعايش والمنافسة والندية بمنهجين مختلفين في المنطلق والنشاط وإن كان هناك مساحة للتقارب والعمل المشترك .
أيها الحضور الكرام :
لقد كان بداية هذه المرحلة في محاكاة السندات الربوية إذ هي من عمد البنوك الربوية ومصدر ربحها المأمون لأصحاب الأموال ، كما إنها تحقق للبنوك سيولة ضخمة تحرك أنشطتها الربوية . فكان نظر المؤسسات المالية الإسلامية في البدائل الآمنة مطلب مشروع ومرغوب ، إن كان بديلا شرعيا ، لا نظيرا في ثوب بديل .
فبدأت هذه المرحلة سليمة قويمة في منتج الصكوك ، وكان بديلا ناجحا إذ أحسن عرضه وهيكلته ، حتى كان من أظهر أدوات التنمية في مجتمعاتنا محققا لشتى مناحي التنمية فتنوعت الصكوك إلى صكوك ملكية الموجودات ، وصكوك ملكية المنافع ، منافع الأعيان الموجودة ، والموصوفة في الذمة ، وصكوك الخدمات ، وصكوك السلم والاستصناع وصكوك المرابحة والمشاركة والمضاربة والمزارعة وغيرها ، وتبع الصكوك الصناديق الاستثمارية . ونجحت نجاح الصكوك فكانت فاتحة خير ، كما أنها فاتحة شهية تتطلع للمزيد ، وقد تمركز هذا النجاح في جلب سيولة ضخمة للمؤسسات المالية الإسلامية وبخاصة من الأموال المهاجرة عكسا من البنوك و الشركات الغربية . وقد شدت الصكوك بالذات الغربيين من المفكرين الاقتصاديين وأرباب الأموال حتى حضروا بأنفسهم ليطلعوا على هذا المنتج ويشاركوا ويقيموا الندوات حتى إذا تحصلوا على مفاهيمه وهيكلته نقلوه إلى بنوكهم وشركاتهم ، ثم أغروا بعد ذلك المؤسسات المالية في التعامل بالصكوك معهم ، ولا شك أن إغراءاتهم مما يصعب ردها أو مقاومتها .. فعندهم الأسواق ومجالات الاستثمارات المتنوعة .. فذهبنا إليهم هناك حتى أدخلونا في جزر الكيمان وأمثالها لنتعلم التحايل القانوني وفق أخلاقياتهم ، ومنهم تعلمنا ضمان رأس المال ثم حماية رأس المال بطرق منها المقبول وأكثرها المردود ، ثم قبلنا صيغة شراء البائع ما باع بالقيمة الاسمية ، وضمان الشريك شريكه . وما إلى ذلك من تنازلات صغيرة في نظرنا ، وقد كانت من الكبائر عندنا أيام مرحلتنا الأولى و الثانية . ورغم ذلك كله وما حواه من هنات وتحايل وصورية إلا أنه كان مقبولاً في جملته إذ يحتمل في بعضها التأويل و التخريج والاستدلال والتصحيح .
أيها الحضور الكرام :
نعم لقد نجح جيل الصكوك و الصناديق الاسثمارية – رغم ما شابها من شوائب يمكن تنقيتها واستدراكها – فكانت مصدر ربحية وتنمية وخير كما أنها كانت فاتحة شهية في الوقت ذاته تتطلع لهلم وللمزيد . فأسلمت هذه الشهية المؤسسات المالية الإسلامية إلى منتج جديد هو” التورق ” وما أدراك .. فقد ظهر جيل التورق في هذه المرحلة الحالية التي نعيشها اليوم ، بدأ تورقا فقهياً مقبولاً ، ثم لم يمهلنا حتى تطور إلى التورق المصرفي المنظمم ، والتورق الاستثماري ، ثم مقلوب التورق ، ثم تطور إلى مقلوب التورق المصرفي المنظم المندمج في المرابحة والوكالة حتى غدا التورق والوديعة لأجل لدى البنوك التقليدية صنوان من مشكاة واحدة .
واسمحوا لي هنا أن أترك الكلمة لأحد الأخصائيين الاقتصاديين المسلمين الغيورين ليبين لنا هذه المرحلة فيقول إنها ” مرحلة ” سيطرة التورق المنظم على جانب التوظيف أو على جانب الأصول في قائمة ميزانية المصرف .. والتورق المنظم يمثل تقريباً الحلقة الأخيرة في هذا الجانب ؛ لأنه يحول المصرف من كونه عنصراً في العملية الحقيقية إلى مجرد مصدر للنقد كما هو الحال في المصرف الربوي ، ووجود سلع ، صورية لا يغير من حقيقية الأمر شيئاً. لكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد ، بل انتقل الخلل من جانب الأصول إلى جانب الخصوم ، ومن جانب التوظيف إلى جانب الاستقطاب ، فإذا كان التورق هو عماد التوظيف فالمنطق يقضي أن مقلوب التورق المنظم هو عماد الاستقطاب ، وهذا ما حصل بالضبط وإذا كان التورق المنظم مصدراً للنقد للعميل فإن مقلوب التورق أصبح هو مصدر النقد للمصرف نفسه فالتمويل النقدي ( نقد مقابل نقد ) أصبح هو أساس نشاط كثير من المصارف
الإسلامية في الأصول وفي الخصوم ، وبهذا ينتهي دور المصرف الإسلامي الذي كان قائماً على أساس النشاط الحقيقي في الجانبين . ثم يقول : لا ندري حقيقية ما هي الخطوة التالية لكن مسيرة المصارف الإسلامية تثير الشفقة والحزن لدى كل مراقب لهذا المشروع . وكل غيور على قضية الاقتصاد الإسلامي” د. سامي السويلم .
قد يرى البعض أن هذه نظرة قائمة لا تمثل الواقع ، وقد يرى البعض أنها نظرة واقعية صحيحة . ولكل وجهته . لكن مالا يختلف عليه اثنان أن واقع المؤسسات المالية الإسلامية . يحتاج إلى تقويم في المنهج والواقع ، وأن التورق بالذات منتج كارثي خطيرمالم يضبط ويحدد حجمه ومساحة تطبيقه .
والذي أراه أن اجتماع عناصر متعددة قد تجعل هذه النظرة صحيحة وواقعية ليس بالتورق المصرفي المنظم ومقلوب التورق فحسب ولكن بانضمام عناصر وحيثيات ومضامين أخرى كادت تجعل من المؤسسات المالية الإسلامية صانعة نقود . من مثل ترتيبات العقود مشتملة على ضمان رأس المال وضمان الخسارة بتحوير دور المضارب والوكيل ، وهما الصفتان الأساسيتان في عمل المؤسسات المالية الإسلامية . فالمضارب أو الوكيل أصبح شريكاً ومشتريا لنفسه وله نسبته وأجره وله حافز قد يفوق نسبته وأجره ، وهو الذي يقوم بالعمليات كلها ، وقد يتولى طرفى العقد وهو وكيل بالشراء و البيع ، والسحب من الحساب والإيداع فيه . وهو وكيل في تسلم السلعة ووكيل في بيعها لنفسه ووكيل في سداد الثمن وهو ضامن لرأس المال في بعض العقود بل ضامن للخسارة بنفسه أو وكيله أو عن طريق جهة لها مصلحة مباشرة أو غير مباشرة في مقابل ارتفاع نسبته في الربح والحافز.
إن اجتماع ذلك كله مع التورق أو ضمنه ، أو ضمن الصكوك يجعل ملاحظه الخبير الاقتصادي صحيحة بل أكثر قتامة .
أيها الحضور الكرام :
نقول ذلك – علم الله – لا قصد فرد أو مؤسسة ، ، وإنما قصد نقد الذات ، وإن كان على الملأ فإننا والحمد لله نملك في المؤسسات المالية الإسلامية من الجرأة والشفافية أن ننقد أنفسنا بغية التصحيح . متفائلين أن مساحة ذلك الانحراف إن صح تسميته بذلك محدودة يمكن حصرها وتداركها وهي في النزر اليسير من المؤسسـات المالية الإسلامية ، ولكن الاستدراك المبكر واجب قبل فوات الأوان .
وتكمن خطورة هذا المنتج لو عم أن تتحول المؤسسات المالية الإسلامية إلى تجارة النقد وتوليده وهي صنعة الربا والعياذ بالله ، وقد حذرنا أئمتنا منذ أمد من خطورة بيع النقود كبيع السلع . وتكرر ذلك في تنبيهاتهم ، ومن ذلك قول الإمام النووي : ” إذا اتجر في عين الدراهم و الدنانير فقد اتخذها مقصوداً على خلاف وضع الحكمة ، إذ طلب النقد لغير ما وضع له ظلم ” .
وقال الإمام ابن تيمية : ” والدراهم والدنانير لا تقصد لنفسها ، بل هي وسيلة إلى التعامل بها ولذا كانت أثماناً ” .
وقال الإمام ابن القيم : ” إذا صارت الأثمان في أنفسها سلعا تقصد لأعينها فسد أمر الناس ” وهذا عينه الذى يحذر منه النابهون من علماء الاقتصاد الغربي اليوم ويرون أن الربا هو الذي يجعل العالم اليوم على فساد أو شفا الفساد ، وما الهزات الاقتصادية العالمية إلا نذير الربا ، وهو اتخاذ النقود سلعة .
أيها الحضور الكرام :
أريد أن أأكد ثانية أننا لانريد من هذا إلا نقد الذات بغية التنبيه فإن الواقع المائل و الماثل أمامنا هو من صنع أيدينا ومن كسب أعمالنا ، نحن فيه شركاء ، في إيجابياته وسلبياته فبعض مؤسساتنا هي التى طورت الصكوك والتورق حتى وصلا إلى ماوصلا إليه ونحن الذين أضفينا على صفة الوكيل والمضارب ماليس من صفاتهما ، حتى تحصل من مجموع ذلك وغيره صورا غريبة على العقود المسماة في فقهنا بل إن منها ما التحيل فيها ظاهر حتى أعطينا الفرصة لمن يتشفى و يتجرأ علينا بالقول أمثال أحد المحامين ممن اطلع علي نماذج من هذه العقود فقال بملء فيه: ” إن المسلمين يستطيعون التحايل على ربهم بمالا نستطيع أن نتحايل به على قضاتنا ” وهذا الكلام وإن كان مردودا إلا أنه قيل لامن فراغ .
أيها الحضور الأعزاء :
يطيب لي أن أختم كلمتي بمطالب موجهة إلينا إلى مؤسساتنا المالية الإسلامية قياداتها العليا وهيئاتها الشرعية بغية الالتزام بالمنهج وحسن تطبيقه وتحقيق الأهداف ، نريد الآتى :
أولا : أن تضع المؤسسات وهيئاتها هدفا أولويا هو توطين أمول المسلمين في بلادهم ، وأن يكون الاستثمار الخارجي محققا لهذا الهدف ما أمكن ، وأن تعزز الهجرة المعاكسة لرؤوس أمول المسلين في الخارج وفي الوقت ذاته تعطي الأولوية للتنمية المحلية .
ثانيا : أن تستثمر بأدوات الاستثمار الإسلامية أي العقود الفقهية المسماة ، مع الابتكار والتطوير واجتهاد البدائل إذ لااعتراض على ذلك بل الحلال في أي صورة ضالة المسلم أنا وجدها فهو أحق بها ، إنما المحذور والاعتراض في مسلك الحيل والمماحلة والتشبه المطابق .
ثالثا : أن تنهج سياسة التميز والمنافسة والندية بأخلاقيات الإسلام وسمو مبادئه ، مع حسن العلاقة مع البنوك التقليدية ، ولايمنع من ذلك التعايش بتمايز المنهجين فالبقاء للأصلح ، ولا مانع أيضا من إلجائهم إلى أضيق الطريق ما أمكن نصرة لدين الله ولرسوله ما دامنا في ميدان حرب الربا.
رابعا : أن تتجه المؤسسات إلى ميدان سوق إسلامية موازية بآلياتها ومؤشراتها الإسلامية .
رابعا : إن مما يعين في تحقيق ما سبق وبخاصة الثبات والتطوير وإيجاد البدائل ، الالتزام بمقررات المجامع الفقهية ، والمجالس العليا للمؤسسات المالية الإسلامية ، والندوات العلمية ، ونسمي على الخصوص المعايير الشرعية التى يصدرها المجلس الشرعي في هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية ، كذا المعايير المحاسبية من الهيئة ذاتها التى بلغت عضوية المؤسسات المالية الإسلامية فيها زهاء مائة وسبع وستين مؤسسة بين بنك ومصرف وشركة .
والله نسأل التوفيق والسداد
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
كلمة اللجنة المنظمة
للمؤتمر الفقهي الثاني
للمؤسسات المالية الإسلامية
للشيخ عجيل جاسم النشمي
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد الله رب العالمين الذي أحل البيع بإطلاق وحرم الربا بإطلاق ، والصلاة والسلام على رسوله المجتبى محمد ( ، الذي فصل حلال البيع وحرام الربا ، وقرر قاعدة الحلال والحرام والشبهة ، وجعل استبراء الدين في اجتناب الشبهات ، وفصلت السنة المطهرة أهم أنواع البيوع وشروطها وضوابطها ، ما يحل من ذلك وما يحرم .
ثم كانت مهمة الأئمة المجتهدين أن توسعوا في استنباط الأحكام من أدلتها التفصيلية وبينوا دلالة ألفاظ الكتاب والسنة ، واستخرجوا القواعد الأصولية والفقهية ، وخرجوا عليها الفروع وفصلوا في الأشباه والنظائر ، وأولوا باب المعاملات أهمية خاصة إذ هو مرجع معايش الناس في حياتهم وتعاملاتهم وعلاقاتهم مما لا يستغنى عنه بحال . فكان تنمية المال بطرق التجارة محورا أساسيا وحضاريا . واتفق الفقهاء ابتداء على مفهوم التجارة وعبروا عن هذا المفهوم في كتبهم ومنه ما قال ابن خلدون :” التجارة تنمية المال بشراء البضائع ومحاولة بيعها بأغلى من ثمن الشراء ، إما بانتظار حوالة الأسواق ، أو نقلها إلى بلد هي فيه أنفق وأغلى ، أو بيعها بالغلاء على الآجال ” فلا مال بلا عمل “ والكسب هو قيمة الأعمال ” وفي سبيل تجارة الحلال بالجمع بين المال والعمل استنبط الفقهاء أنواع البيوع والمضاربات والمشاركات ، وتوسعوا في ذلك توسعا يناسب واقع الدولة الإسلامية ، وجعل ذلك من الاقتصاد الإسلامي مادة حضارية مبنية على أسس متينة من الفقه والعدل والمساواة بمرجع مجمل الكتاب ومبين السنة ومفصل استنباط أهل العلم الراسخين فيه .
أيها الحضور الكرام :
بمجموع ذلك انطلقت حضارة الإسلام في المال وتوظيفه وسعدت به البشرية في الدولة الإسلامية المترامية الأطراف وهي يومئذ أعظم وأوسع حضارة عرفها التاريخ . حتى خلف الفقهاء السابقون تراثا ضخما تراكم على مرحوالي ثلاثة عشر قرنا ، وكان بحق مفخرة المسلمين بإقرار وشهادة خصومه بأنه تراث حضاري ليس له مثيل في حضارات سالفة ، بل إن أوروبا قد بنت جزء كبيراً من نظمها وقوانينها الإدارية والتجارية على هذا الموروث الفقهي وفي ذلك يقول المؤرخ الفرنسي “سيدو” : ” إن قانون نابليون مأخوذ من كتاب فقهي في مذهب الإمام مالك هو شرح الدردير على متن خليل ” ويقول المؤرخ الإنجليزي “ويلز” : ” إن أوربا مدينة للإسلام بالجانب الأكبر من قوانينها ” ويقول العالم الشهير “غوستاف لوبون” : ” إن المسلمين هم سبب انتشار المدنية في بلاد أوربا ” لكن هذا التراث الفقهي والاقتصادي منه بخاصة قد غيب عن واقع الأمة منذ نحيت شريعة الله عزوجل ، وحل مكانها القوانين الوضعية وهي فترة فراغ شرعي تشريعي منذ حوالي عام 1854 م في عهد السلطان عبد المجيد وهو التاريخ الفعلي لا الرسمي لسقوط الخلافة الإسلامية ، أما السقوط الرسمي العلني فكان على يد كمال أتاتورك عام 1924 م حيث أعلن سقوط الخلافة الإسلامية رسميا أمام العالم .
أيها الحضور الكرام :
لقد شاء الله تعالى ألا يطول هذا الفراغ والبعد فقيض لإحياء المعاملات المالية الإسلامية، وإحياء الاقتصاد الإسلامي اليوم هؤلاء العلماء الفقهاء المعاصرين الذين استطاعوا الربط بين الماضي الفقهي والحضاري ، وواقع المال اليوم وتحقيق رغبة شاملة عامة في صحوة المسلمين بعد هذا السبات والتبعية الاقتصادية يريدون عبادة ربهم بالمال الحلال وخروجاً من إفك الربا وآثامه ، والمحاربة مع الله تعالى ورسوله ( صفا واحدا لحرب الربا آفة اقتصاد العالم بأسره . فبدأت بذلك مسيرة جديدة على ساحة العالم الاقتصادية هي مسيرة المؤسسات المالية الإسلامية ونعني بها البنوك والمصارف والشركات الإسلامية ، التي لم يتجاوز عمرها اليوم أربعين سنة .
هذه مقدمة ضرورية للدخول في كلمتي التي خصصتها إضاءات وملاحظات على هذه المسيرة بغية تأكيد الصحيح منها وتقوية مساره وتوسيعه ، والتنبيه على الخطأ ومجانبة صحيح الطريق إلى معوجه أو ما كان على خطر ذلك في مسير بعض هذه المؤسسات المالية الإسلامية .
ويمكن تحديد هذه المسيرة في مراحل ثلاث :
المرحلة الأولى : مرحلة التأسيس والتأصيل :
أيها الحضور الكرام :
إن الراصد لمسيرة النمو في المؤسسات المالية الإسلامية يدرك بدايتها الموفقة الوئيدة المتحفظة يوم أن بدأت وليدا بين عمالقة المال وسوق الأوراق والعملات ، وبين المصطلحات الاقتصادية الراسخة على مر سنوات الفراغ تلك . فكان الطرح الفقهي الآمن بطبيعته وآليته هو أفضل سبل الدخول في هذا السوق ، فكانت أدوات المضاربات والمشاركات ، ثم دخلت المرابحات ، فكانت هذه أدوات العمل ومفتاح السوق وجلب العملاء الراغبين ترشيد أموالهم والراغبين تطهيرها بسلكها مسلك التجارة الإسلامية ، أو الاقتصاد الإسلامي الذي يعتمد التبادل العيني والمشاركة والمخاطرة سبيلا للتنمية الاجتماعية والفردية .
وأثناء بدايات هذه المسيرة لاح واضحا أن السوق أوسع وأكبر من أن تستوعب سيولته وأنشطته هذه الأدوات ، وأن المرابحة وإن توسع فيها إلا أن آثار ذلك كان سلبيا على المؤسسات ومؤثرا في مسيرتها فجاءت التوصيات بالتقليل من المرابحات , وكان أن نشطت حينئذ حركة البحث والمؤتمرات المجمعية والندوات في توسيع دائرة البحث والعمل والنشاط الاقتصادي فكان حصيلة ذلك صدور قرارات وفتاوى كلها تصب في دائرة التطوير والبدائل ، وهذا ما أسلم هذه المرحلة إلى بدايات المرحلة الثانية .
أيها الحضور الكرام :
المرحلة الثانية : وهي مرحلة توسيع الأدوات المالية والتعايش مع البنوك التقليدية فإن نجاحات وعوائق المرحلة الأولى كانت دافعا ملحا لتطوير العمل وتوسيع أدواته كيما تستجيب إلى متطلبات المرحلة ، واستيعاب السيولة ، بله المنافسة بعد معالم النجاح الواضحة التي تمثلت في هجرة سيولة ضخمة من البنوك التقليدية إلى حسابات المؤسسات المالية الإسلامية من بنوك ومصارف وشركات الأمر الذي زاد من مسئولية الفقهاء والافتصاديين والمحاسبين في إطار الفقه الإسلامي فنشطت حركة المؤتمرات والندوات وإثراء الساحة بأبحاث معمقة وكتب فقهية ورسائل علمية تعالج الواقع وتضع البدائل والحلول . فكانت جهودا مباركة أثمرت تطويرا ملحوظا تمثل في عقود السلم والسلم الموازي ، والاستصناع والاستصناع الموازي ، والإجـارة والإجارة المنتهية بالتمليك ، والمتاجرة بالعملات ، وبطاقات الحسم ، وبطاقات الائتمان ، والحوالة المصرفية ، والأوراق المالية ، والأوراق التجارية ، وغير ذلك . وكان هذا الثراء القديم الجديد دفعة قوية لقيام المؤسسات المالية بدورها وتحمل مسئوليتها بصفتها وكيلا أو مضاربا أو شريكا الأمر الذي حقق للمؤسسات سمعة ومكانة سامية وربحية عالية لمساهميها ومودعيها فاقت ما عليه البنوك التقليدية . كما شهدت إبانها تنمية ونهضة عمرانية وحركة تجارية لاينكرها إلا مكابر. فكانت هذه المرحلة بحق أخصب وأهم المراحل المنتجة التي حافظت على المنهج الفقهي في المعاملات والعقود ، مع تقديم بدائل أشفت غليل المستثمرين في الجمع بين الحلال والربحية .
أيها الحضور الكرام :
إن هذه المرحلة هي التي لفتت أنظار الراصدين محليا وعالميا ، بل دعت العديد من البنوك التقليدية لتعيد النظر في مسيرتها إما بالتقرب من المؤسسات المالية الإسلامية في مشاركات ، أو فتح النوافذ . ومن صدق منها غير وجهته كلها شطر المسجد الحرام . وهذه المرحلة هي مرحلة الثبات أو إثبات المؤسسات المنهجية الاقتصادية الإسلامية وتثبيت هويتها ، مرحلة التعريف بالمنهج وتميزه ، وهي مرحلة كانت تحتاج إلى الاستمرار مع تحفظ عن التوسع حتى يحين وقته المناسب . هذا كان المؤمل لكن ضغط الواقع كان أقوى من ذلك ، فلم تطل بنا مرحلة التوسع والتعايش المتميز حتى استدرجت المؤسسات المالية الاسلامية لتسلم نفسها إلى المرحلة الثالثة .
فكانت المرحلة الثالثة : مرحلة المماحلة- المماكرة والمكايدة – والحيل والتشبه :
بدأت هذه المرحلة في تقديرنا استجابة لضغط الواقع التقليدي من جانب محليا وعالميا، ومن جانب آخر ضخامة السيولة لدى المؤسسات المالية الإسلامية وحاجتها إلى التصريف والتوظيف والاستثمار في منتجات ربحية تحافظ على مساهميها ومودعيها فكان التفكير في العمل على محاكاة ومماحلة البنوك التقليدية والتطلع للدخول في أسواق البورصات العالمية ، وربط العلاقات مع الشركات العالمية العملاقة ، كل ذلك في سبيل إيجاد أسواق تستوعب السيولة ولا شك أن هذه ضغوط منطقية واقعية ما دامت هذه المؤسسات تعمل في واقع له حضور وتاريخ وأعراف . لكن هذه الضغوط كانت تحتاج في مواجهتها ومعايشتها إلى أمرين : إيجاد البدائل على وفق الثوابت الاقتصادية الإسلامية ، وتأسيس العلاقات من منطلق التعايش والمنافسة والندية بمنهجين مختلفين في المنطلق والنشاط وإن كان هناك مساحة للتقارب والعمل المشترك .
أيها الحضور الكرام :
لقد كان بداية هذه المرحلة في محاكاة السندات الربوية إذ هي من عمد البنوك الربوية ومصدر ربحها المأمون لأصحاب الأموال ، كما إنها تحقق للبنوك سيولة ضخمة تحرك أنشطتها الربوية . فكان نظر المؤسسات المالية الإسلامية في البدائل الآمنة مطلب مشروع ومرغوب ، إن كان بديلا شرعيا ، لا نظيرا في ثوب بديل .
فبدأت هذه المرحلة سليمة قويمة في منتج الصكوك ، وكان بديلا ناجحا إذ أحسن عرضه وهيكلته ، حتى كان من أظهر أدوات التنمية في مجتمعاتنا محققا لشتى مناحي التنمية فتنوعت الصكوك إلى صكوك ملكية الموجودات ، وصكوك ملكية المنافع ، منافع الأعيان الموجودة ، والموصوفة في الذمة ، وصكوك الخدمات ، وصكوك السلم والاستصناع وصكوك المرابحة والمشاركة والمضاربة والمزارعة وغيرها ، وتبع الصكوك الصناديق الاستثمارية . ونجحت نجاح الصكوك فكانت فاتحة خير ، كما أنها فاتحة شهية تتطلع للمزيد ، وقد تمركز هذا النجاح في جلب سيولة ضخمة للمؤسسات المالية الإسلامية وبخاصة من الأموال المهاجرة عكسا من البنوك و الشركات الغربية . وقد شدت الصكوك بالذات الغربيين من المفكرين الاقتصاديين وأرباب الأموال حتى حضروا بأنفسهم ليطلعوا على هذا المنتج ويشاركوا ويقيموا الندوات حتى إذا تحصلوا على مفاهيمه وهيكلته نقلوه إلى بنوكهم وشركاتهم ، ثم أغروا بعد ذلك المؤسسات المالية في التعامل بالصكوك معهم ، ولا شك أن إغراءاتهم مما يصعب ردها أو مقاومتها .. فعندهم الأسواق ومجالات الاستثمارات المتنوعة .. فذهبنا إليهم هناك حتى أدخلونا في جزر الكيمان وأمثالها لنتعلم التحايل القانوني وفق أخلاقياتهم ، ومنهم تعلمنا ضمان رأس المال ثم حماية رأس المال بطرق منها المقبول وأكثرها المردود ، ثم قبلنا صيغة شراء البائع ما باع بالقيمة الإسمية ، وضمان الشريك شريكه . وما إلى ذلك من تنازلات صغيرة في نظرنا ، وقد كانت من الكبائر عندنا أيام مرحلتنا الأولى و الثانية . ورغم ذلك كله وما حواه من هنات وتحايل وصورية إلا أنه كان مقبولاً في جملته إذ يحتمل في بعضها التأويل و التخريج والاستدلال والتصحيح .
أيها الحضور الكرام :
نعم لقد نجح جيل الصكوك و الصناديق الاسثمارية – رغم ما شابها من شوائب يمكن تنقيتها واستدراكها – فكانت مصدر ربحية وتنمية وخير كما أنها كانت فاتحة شهية في الوقت ذاته تتطلع لهلم وللمزيد . فأسلمت هذه الشهية المؤسسات المالية الإسلامية إلى منتج جديد هو” التورق ” وما أدراك .. فقد ظهر جيل التورق في هذه المرحلة الحالية التي نعيشها اليوم ، بدأ تورقا فقهياً مقبولاً ، ثم لم يمهلنا حتى تطور إلى التورق المصرفي المنظمم ، والتورق الاستثماري ، ثم مقلوب التورق ، ثم تطور إلى مقلوب التورق المصرفي المنظم المندمج في المرابحة والوكالة حتى غدا التورق والوديعة لأجل لدى البنوك التقليدية صنوان من مشكاة واحدة .
واسمحوا لي هنا أن أترك الكلمة لأحد الأخصائيين الاقتصاديين المسلمين الغيورين ليبين لنا هذه المرحلة فيقول إنها ” مرحلة ” سيطرة التورق المنظم على جانب التوظيف أو على جانب الأصول في قائمة ميزانية المصرف .. والتورق المنظم يمثل تقريباً الحلقة الأخيرة في هذا الجانب ؛ لأنه يحول المصرف من كونه عنصراً في العملية الحقيقية إلى مجرد مصدر للنقد كما هو الحال في المصرف الربوي ، ووجود سلع ، صورية لا يغير من حقيقية الأمر شيئاً. لكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد ، بل انتقل الخلل من جانب الأصول إلى جانب الخصوم ، ومن جانب التوظيف إلى جانب الاستقطاب ، فإذا كان التورق هو عماد التوظيف فالمنطق يقضي أن مقلوب التورق المنظم هو عماد الاستقطاب ، وهذا ما حصل بالضبط وإذا كان التورق المنظم مصدراً للنقد للعميل فإن مقلوب التورق أصبح هو مصدر النقد للمصرف نفسه فالتمويل النقدي ( نقد مقابل نقد ) أصبح هو أساس نشاط كثير من المصارف
الإسلامية في الأصول وفي الخصوم ، وبهذا ينتهي دور المصرف الإسلامي الذي كان قائماً على أساس النشاط الحقيقي في الجانبين . ثم يقول : لا ندري حقيقية ما هي الخطوة التالية لكن مسيرة المصارف الإسلامية تثير الشفقة والحزن لدى كل مراقب لهذا المشروع . وكل غيور على قضية الاقتصاد الإسلامي” د. سامي السويلم .
قد يرى البعض أن هذه نظرة قائمة لا تمثل الواقع ، وقد يرى البعض أنها نظرة واقعية صحيحة . ولكل وجهته . لكن مالا يختلف عليه اثنان أن واقع المؤسسات المالية الإسلامية . يحتاج إلى تقويم في المنهج والواقع ، وأن التورق بالذات منتج كارثي خطيرمالم يضبط ويحدد حجمه ومساحة تطبيقه .
والذي أراه أن اجتماع عناصر متعددة قد تجعل هذه النظرة صحيحة وواقعية ليس بالتورق المصرفي المنظم ومقلوب التورق فحسب ولكن بانضمام عناصر وحيثيات ومضامين أخرى كادت تجعل من المؤسسات المالية الإسلامية صانعة نقود . من مثل ترتيبات العقود مشتملة على ضمان رأس المال وضمان الخسارة بتحوير دور المضارب والوكيل ، وهما الصفتان الأساسيتان في عمل المؤسسات المالية الإسلامية . فالمضارب أو الوكيل أصبح شريكاً ومشتريا لنفسه وله نسبته وأجره وله حافز قد يفوق نسبته وأجره ، وهو الذي يقوم بالعمليات كلها ، وقد يتولى طرفى العقد وهو وكيل بالشراء و البيع ، والسحب من الحساب والإيداع فيه . وهو وكيل في تسلم السلعة ووكيل في بيعها لنفسه ووكيل في سداد الثمن وهو ضامن لرأس المال في بعض العقود بل ضامن للخسارة بنفسه أو وكيله أو عن طريق جهة لها مصلحة مباشرة أو غير مباشرة في مقابل ارتفاع نسبته في الربح والحافز.
إن اجتماع ذلك كله مع التورق أو ضمنه ، أو ضمن الصكوك يجعل ملاحظه الخبير الاقتصادي صحيحة بل أكثر قتامة .
أيها الحضور الكرام :
نقول ذلك – علم الله – لا قصد فرد أو مؤسسة ، ، وإنما قصد نقد الذات ، وإن كان على الملأ فإننا والحمد لله نملك في المؤسسات المالية الإسلامية من الجرأة والشفافية أن ننقد أنفسنا بغية التصحيح . متفائلين أن مساحة ذلك الانحراف إن صح تسميته بذلك محدودة يمكن حصرها وتداركها وهي في النزر اليسير من المؤسسـات المالية الإسلامية ، ولكن الاستدراك المبكر واجب قبل فوات الأوان .
وتكمن خطورة هذا المنتج لو عم أن تتحول المؤسسات المالية الإسلامية إلى تجارة النقد وتوليده وهي صنعة الربا والعياذ بالله ، وقد حذرنا أئمتنا منذ أمد من خطورة بيع النقود كبيع السلع . وتكرر ذلك في تنبيهاتهم ، ومن ذلك قول الإمام النووي : ” إذا اتجر في عين الدراهم و الدنانير فقد اتخذها مقصوداً على خلاف وضع الحكمة ، إذ طلب النقد لغير ما وضع له ظلم ” .
وقال الإمام ابن تيمية : ” والدراهم والدنانير لا تقصد لنفسها ، بل هي وسيلة إلى التعامل بها ولذا كانت أثماناً ” .
وقال الإمام ابن القيم : ” إذا صارت الأثمان في أنفسها سلعا تقصد لأعينها فسد أمر الناس ” وهذا عينه الذى يحذر منه النابهون من علماء الاقتصاد الغربي اليوم ويرون أن الربا هو الذي يجعل العالم اليوم على فساد أو شفا الفساد ، وما الهزات الاقتصادية العالمية إلا نذير الربا ، وهو اتخاذ النقود سلعة .
أيها الحضور الكرام :
أريد أن أأكد ثانية أننا لانريد من هذا إلا نقد الذات بغية التنبيه فإن الواقع المائل و الماثل أمامنا هو من صنع أيدينا ومن كسب أعمالنا ، نحن فيه شركاء ، في إيجابياته وسلبياته فبعض مؤسساتنا هي التى طورت الصكوك والتورق حتى وصلا إلى ماوصلا إليه ونحن الذين أضفينا على صفة الوكيل والمضارب ماليس من صفاتهما ، حتى تحصل من مجموع ذلك وغيره صورا غريبة على العقود المسماة في فقهنا بل إن منها ما التحيل فيها ظاهر حتى أعطينا الفرصة لمن يتشفى و يتجرأ علينا بالقول أمثال أحد المحامين ممن اطلع علي نماذج من هذه العقود فقال بملء فيه: ” إن المسلمين يستطيعون التحايل على ربهم بمالا نستطيع أن نتحايل به على قضاتنا ” وهذا الكلام وإن كان مردودا إلا أنه قيل لامن فراغ .
أيها الحضور الأعزاء :
يطيب لي أن أختم كلمتي بمطالب موجهة إلينا إلى مؤسساتنا المالية الإسلامية قياداتها العليا وهيئاتها الشرعية بغية الالتزام بالمنهج وحسن تطبيقه وتحقيق الأهداف ، نريد الآتى :
أولا : أن تضع المؤسسات وهيئاتها هدفا أولويا هو توطين أمول المسلمين في بلادهم ، وأن يكون الاستثمار الخارجي محققا لهذا الهدف ما أمكن ، وأن تعزز الهجرة المعاكسة لرؤوس أمول المسلين في الخارج وفي الوقت ذاته تعطي الأولوية للتنمية المحلية .
ثانيا : أن تستثمر بأدوات الاستثمار الإسلامية أي العقود الفقهية المسماة ، مع الابتكار والتطوير واجتهاد البدائل إذ لااعتراض على ذلك بل الحلال في أي صورة ضالة المسلم أنا وجدها فهو أحق بها ، إنما المحذور والاعتراض في مسلك الحيل والمماحلة والتشبه المطابق .
ثالثا : أن تنهج سياسة التميز والمنافسة والندية بأخلاقيات الإسلام وسمو مبادئه ، مع حسن العلاقة مع البنوك التقليدية ، ولايمنع من ذلك التعايش بتمايز المنهجين فالبقاء للأصلح ، ولا مانع أيضا من إلجائهم إلى أضيق الطريق ما أمكن نصرة لدين الله ولرسوله ما دامنا في ميدان حرب الربا.
رابعا : أن تتجه المؤسسات إلى ميدان سوق إسلامية موازية بآلياتها ومؤشراتها الإسلامية .
رابعا : إن مما يعين في تحقيق ما سبق وبخاصة الثبات والتطوير وإيجاد البدائل ، الالتزام بمقررات المجامع الفقهية ، والمجالس العليا للمؤسسات المالية الإسلامية ، والندوات العلمية ، ونسمي على الخصوص المعايير الشرعية التى يصدرها المجلس الشرعي في هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية ، كذا المعايير المحاسبية من الهيئة ذاتها التى بلغت عضوية المؤسسات المالية الإسلامية فيها زهاء مائة وسبع وستين مؤسسة بين بنك ومصرف وشركة .
والله نسأل التوفيق والسداد
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
13