المشاركة المتناقصة وضوابطها الشرعية
مقدم
للدورة الرابعة عشرة لمؤتمر مجمع الفقه الإسلامي بجدة
للأستاذ الدكتور عجيل جاسم النشمي
مقدمـــة :
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد :
فليس شيء أشد حربا على الناس مثل الربا ، وليس شيء أسعد للناس مثل البيع ، ولذا ] أحل الله البيع وحرم الربا [ ( البقرة : 275 ) ، والبيع استثمار ، والربا مال يولد المال فيزيد من فقر المحتاج فقرا ، ومن غنى المترف غنى ، حتى يصاب هذا بالهزال والكساح ، وذاك بالتخمة من السحت البواح.
فالربا ضد الاستثمار ، وقد ساهم الربا بحظ وافر في تخلف المجتمعات الإسلامية النامية التي تلهث وراء سرابه ، وهي أشد ما تكون لاستثمار وتنمية ، فالمال يدور بين أصحاب المال متداولاً بينهم بضـد قـول الله تعالى : ] كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم [ ( البقرة : 276 ) .
والربا ظلم عظيم لا يمحقه إلا استثمار عادل ، ولا يزال الناس يظلم بعضهم بعضا ، وكلما تقدمت بهم حضارة الربا زاد ظلمهم وانتشر ، وتوسعت قاعدته واشرأبت رؤوس شياطينه.
ولا يزال الناس يرابون فوق رؤوس أموالهم غير تائبين بضد قوله تعالى : ] وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون[ ( البقرة : 279 ) ، فعين الظلم أن يأخذ الإنسان ما ليس له .
يقول الإمام ابن تيميه : ” الربا ظلم للمحتاج ؛ فإن الله لم يدع الأغنياء حتى أوجب عليهم إعطاء الفقراء ؛ فإن مصلحة الغني والفقير لا تتم إلا بذلك ، فإذا أربى معه فهو بمنزلة من له على رجل دين فمنعه وظلمه زيادة أخرى ، والغريم محتاج إلى دينه ، فهذا من أشد أنواع الظلم ، ويقول الإمام الرازي : ” الربا يقتضي أخذ مال الإنسان من غير عوض ، ومال الإنسان متعلق حاجته ، وله حرمة عظيمة ، فوجب أن يكون أخذ المال من غير عوض محرما ” .
والربا ضد الصدقة ؛ إذ مبناه على الجشع ، وهل من مزيد ، فكلما زاد الجشع والمزيد ، زاد الظلم وتضخم الرصيد ، فلا تكفي الفائدة التي لا يقابلها جهد ولا عمل ، بل يركب عليها فائدة تلو الأخرى ، حتى يفلس المدين ويودع السجن ، وتضيع أسرته ، فتكون القاصمة ، فمجتمع الربا ، مجتمع التنافس في الشر والظلم فأنى لفقير صدقة ، أو سد جوعه ، أو أدنى رحمة وسط مجتمع الربا المستعر .
وما دام الربا ضد الصدقة فهو ضد استثمار النفس في الخير ؛ إذ هو معصية وتدنيس ، والصدقة طهرة ونظافة وليس للمرابي للطهر سبيل قال تعالى : ] خذ من أموالهم صـدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم، إن صلاتك سكن لهم ، والله واسع عليم [ ( التوبة 103 ) ، وقد نصر الله من زكى نفسه ، وطهرها من الدنس ، وذم من دنسـها بمعصية الربا ، فقـال عـز وجل : ] قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها [ أي أخفاها بالمعصية .
من هنا كان الاستثمار ، وأخص طرائقه المشاركة ، محور الأعمال المصرفية الإسلامية الأخلاقية .
والاستثمار أمضى أسلحة حربنا للربا نصرة لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ومن ينصر الله ينصره ويثبته ، ويعلي شأنه ، ويوسع عليه في الدنيا والآخرة . ذلك أن المشـاركات مبناها التعاون على البر والتقوى في التجارة ، فهي تنمية اقتصادية واجتماعية تلتقي مع التعاون على البر والتقوى في أعمال الخير والنصح والصلة والتآلف والتراحم أسريا واجتماعيا.
إن المشاركة في مفهوم الاقتصاد الإسلامي مسئولية اجتماعية وأخلاقية وتربوية ، ثم هي تنموية في هذا كله إلى جانب كونها مسئولية مالية اقتصادية ، تقوم على مبدأ ” الغنم بالغرم ” و ” الخراج بالضمان ” ، والنظام الربوي لا يتحمل المضاربون المغامرون فيه مسئولية ولا يعنيهم الاستثمار وإعمار البلاد والتوسعة على أهلها في شيء ، بل هذا مرجعه لمن استلم المال يضعه في الحـلال أو الحرام .
ولما كانت المشاركات من أهم سبل التنمية فقد تعددت في الفقه الإسلامي طرائقه تبعا لمحله ، فقد تكون المشاركة في شركة المِلْك ، أو شركة العقد بأنواعها ، من شركة المفاوضة ، وشركة الأعمال ، وشركة العنان وشركة المضاربة … .
وإذا كانت المشاركة المتناقصة من قبيل التقاء المال و العمل ، فهي مشاركة مشروعة في أصلها ، ويبقى وصفها الشرعي المحدد تبعا لمفهومها وشروطها ، وضوابطها ، وتبعا لصورها وأنواعها ، وكيفية تطبيقاتها ، وهذا البحث معني بالكشف عن حكم الشرع في ذلك كله .
والله المستعان
التعريف :
عرف قانون البنك الإسلامي الأردني رقم 13 لسنة 1978 في المادة الثانية المشاركـة المتناقضـة بأنها : دخول البنك بصفة شريك ممول كليا أو جزئيا في مشروع ذي دخل متوقع، وذلك على أساس الاتفاق مع الشريك الآخر بحصول البنك على حصة نسبية من صافي الدخل المتحقق فعلا مع حقه بالاحتفاظ بالجزء المتبقي أو أي قدر منه يتفق عليه ليكون ذلك الجزء مخصصاً لتسديد أصل ما قدمه البنك من تمويل .
أو هي كما عرفتها الموسوعة الإسلامية : مشاركة يعطي البنك فيها الحق للشريك في الحلول محله في الملكية دفعة واحدة ، أو على دفعات وفق ما تقتضيه الشروط المتفق عليها ، أو طبيعة العملية على أساس إجراء ترتيب منظم لتجنيب جزء من الدخل قسطا لسداد قيمة حصة البنك ([]) ، أو هي شركة يتعهد فيها أحد الشركاء بشراء حصة الآخر تدريجياً إلى أن يتملك المشتري المشروع بكامله ([]) .
ويمكن تعريف المشاركة المتناقضة بالتالي : شركة يعطي أحد الشركاء الحق للشريك الآخر في الحلول محله في ملكية نصيبه دفعة واحدة أو على دفعات وذلك بتجنيب جزء من الدخل لسداد أصل حصة الشريك مع حصة من صافي الدخل ، حسبما يتفقان عليه .
وهذا التعريف يكشف عن خصائص المشاركة المتناقضة ، فهي شركة مؤقتة في عقار ، أو نحوه مما يدر ربحا ، يتفق فيها ابتداء على خروج أحد الشركاء ، وغالبا ما يكون هو الممول بالمال كله أو جزء منه بطريقة يسترد فيها الممول أصل رأس ماله مع ربحه دفعة واحدة ، أو تدريجيا وهذا الأخير هو المقصود المعتاد من هذه المشاركة . فهي شركة مع وعد من الطرفين ، وعد من الممول بأن يتنازل عن حصته أو بمعنى أصح بيع حصته لشريكه ، ووعد من الشريك الآخر أن يشتري حصة شريكه وفق الشروط التي يتفقان عليها .
وعلى هذا يمكن بيان محل ومراحل وأطراف عقد الشركة المتناقصة ، وخطواتها في الآتي :
1 – اتفاق طرفين أو أكثر على إنشاء الشركة مؤقتة وتحديد نوع المشروع المراد تملكه ويكون مدراً منتجاً .
2 – الاتفاق على انتقال حصة المؤسسة المالية – في الغالب – إلى العميل بالشراء مرة واحدة أو متتابعة في أزمنة محددة بعقود متوالية مستقل بعضها عن الآخر .
3 – وعد متبادل من المؤسسة المالية بأن تبيع أو تؤجر حصتها للعميل ويقابل ذلك وعد من العميل بالاستئجار أو الشراء أو يكون التأجير لطرف آخر ، وهذه الوعود ملزمة كعرف الوعود في العقود المعاصرة ، وهذا هو الأنسب وإلا دخل على الناس الضرر من الإخلال بالوعود ، خاصة وقد اتجه بعض الفقهاء – خلافاً للجمهور – إلى الأخذ بإلزامية الوعد وهو مذهب الإمام أحمد وابن تيمية ، وقول عند المالكية وابن شبرمة . وقد جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي 40 – 41 ( 2/5 و 3/5 ) في الوعد في بيع المرابحة .
” الوعد – وهو الذي يصدر من الآمر ، أو المأمور على وجه الانفراد –يكون ملزماً للواعد ديانة إلا بعذر ، وهو ملزم قضاء إذا كان معلقاً على سبب ودخل الموعود في كلفة نتيجة الوعد ، ويتجدد أثر الإلزام في هذه الحالة إما بتنفيذ الوعـد ، وإما بالتعويض عن الضرر الواقع فعلاً بسبب عدم الوفاء بالوعد بلا عذر .
ومن أمثلة هذه الشركة : أن تتفق المؤسسة المالية الإسلامية ([]) . مع فرد أو أفراد ، أو جهة أو مؤسسة مالية أخرى على تمويل الطرف الثاني بجزء من قيمة شراء مجمع تجاري ، ويتفق على أن تأخذ المؤسسة حصة من ربح المجمع تتناسب مع حصتها في رأس المال ، وحصة أخرى لتغطية رأس المال ، ويستحق الشريك حصته من الأرباح بمقدار مساهمته في رأس المال ، فإن كان هو المدير استحق مقابل الإدارة .
وهكذا يستمر الشريك بدفع حصتين للمؤسسة ، فتتناقص نسبة ملكية المؤسسة ، وتزيد نسبة ملكية الشريك كلما دفع مزيدا من الأقساط حتى إذا سدد كامل قيمة رأس المال انتقلت إليه الملكية .
أو مثل : ” أن ينشئ المصرف والعميل شركة ذات طبيعة خاصة وغرض محدد هو شراء ذلك الأصل المطلوب وتسمى ( مشاركة ) ، ويشتركان في رأس مالها فيدفع العميل نسـبة ضئيلة ( لأنه لا يتوفر على السيولة الكافية ) مثل 5 % أو أكثر أو أقل ، ويدفع المصرف النسـبة الباقية ، عندئذ يصبح هذا الأصل بعد الشراء ، ملكاً للطرفين بنسبة مساهمة كل منهما في رأس المال ، ولما كان غرض العملية هو امتلاك ذلك العميل للأصل ، وليس للمصرف رغبة في الإبقاء عليه في ملكه ، يتفق الطرفان على قيامه ( أي العميل ) بشراء نصيب المصرف في المشـاركة المذكورة ( والمتمثلة في حصة مشاعة في ذلك الأصل ) بصفة متدرجة ، فإذا كان العميل يرغب في دفع الثمن على مدى عشر سنين مثلاً جعلت حصة المصرف عشر شرائح كل شريحة تمثل 10 % ، ويتفق الطرفان على شراء ذلك العميل لعشر حصة المصرف ، أي لشريحة واحدة في كل سنة ، واستئجار النسبة الباقية المملوكة للمصرف إذا كان العميل يقطن في العقار وإذا لم يكن ، جرى تأجيره واقتسم إيجاره بين الطرفين .
وقد تباينت التطبيقات لهذه الصيغة بين المصارف الإسلامية ، فمنها من يجعل رسوم الإيجار السنوي لحصة البنك معلومة محددة ومتفقاً عليها عند توقيع العقد ، وكذلك ثمن البيع لكل شريحة من حصة البنك ، ومنها من يعمد إلى تقويم سنوي لقيمة الأصل في السوق في تاريخ محدد من كل سنة ، ثم يحدد بناء عليه ثمن الشريحة من حصة المصرف التي التزم العميل بشرائها كجـزء من تلك القيمة . كذلك يتحدد الإيجار السنوي لما بقي من حصة البنك بنفس الطريقة ، ولعل الاتجاه الثاني مرده إلى التوجيه في أن البيوع المضافة إلى المستقبل لا تجوز ” ([]) .
التكييف الشرعي لعقد المشاركة المتناقصة المنتهية بالتمليك :
عقد المشاركة المتناقصة يشبه أن يكون من عقود شركات الأموال ([]) ، وهي هنا شركة محدودة ، تشبه شركة العنان حيث إن المؤسسة المالية الإسلامية تمول الشريك بجزء من رأس المال ، فإذا اشتركا في العمل والربح بينهما فتشبه حينئذ شركة العنان ولكن هل هي شركة عنان من كل وجه لننظر في تعريف وحقيقة شركة العنان ، فشركة العنان هي ” أن يشترك رجلان بماليهما على أن يعملا فيه بأبدانهما والربح بينهما ، فينفذ تصرف كل واحد منهما فيهما بحكم الملك في نصيبه ، والوكالة في نصيب شريكه ” ([]).
وشركة العنان جائزة بالإجماع كما حكاه ابن المنذر ([]) .
وهناك تعريف آخـر لشـركة العنان ، وهو التعريف الصحيح عند الحنابلة ” بأن يشترك اثنان بماليهما على أن يعمل فيه أحدهما بشرط أن يكون له من الربح أكثر من ربح ماله ” ، قال البهوتي : الصحيح من المذهب ” أو يعمل فيه أحدهما لكن بشرط أن يكون له أكثر من ربح ماله ” ([]) .
فالربح عند الحنابلة بقدر المالين ما لم يشترط خلافه فيعمل بمقتضى الشـرط .
والحنفية لا يمنعون من تساوي المالين وتفاوت الربح قال الحلبي : ” وتصح شركة عنان مع التفاضل في رأس المال والربح ، ومع التساوي فيهما ، أو في أحدهما دون الآخر عند عملهما ، ومع زيادة في الربح للعامل عند عمل أحدهما ” ([]) .
ومنع من ذلك المالكية والشافعية فاشترطوا أن يكون الربح كالخسارة بقدر المالين ، بل ضيق المالكية فاشترطوا أن يكون العمل أيضا بقدر المالين . قال التسولي : إن تساويا في المال والعمل على أن يكون لأحدهما فضل من الربح لم يجز ، وكذلك إن تساويا فيه أو تفاضلا على أن يكون العمل على أحدهما فلا يجوز ، وإن تفاضلا في المال على أن يكون العمل بينهما على السواء لم يجز([]) .
وقال ابن الموَّاز : وإذا اشتركا بالتساوي على أن يكون المال بيد أحدهما ويلى البيع والشراء لم يجز ، وإن وليا ذلك جميعاً إلا أن أحدهما يكون ذلك بيده فذلك جائز([]).
والعلة في المنع والجواز ما ذكره ابن رشد بقوله : إن عمدة من منع ذلك أنه تشبيه الربح بالخسران ، فكما أنه لو اشترط أحدهما جزءا من الخسران لم يجز كذلك إذا اشترط جزءا من الربح خارجا عن ماله ، وربما شبهوا الربح بمنفعة العقار الذي بين الشريكين ، أعني أن المنفعة بينهما تكون على نسـبة أصل الشركة .
وعمدة أهل العراق تشبيه الشركة بالقراض ، وذلك أنه لما جاز في القراض أن يكون للعامل من الربح ما اصطلحا عليه ، والعامل ليس يجعل مقابله إلا عملا فقط كان في الشركة أخرى أن يجعل للعامل جزء من المال إذا كانت الشركة مالا من كل واحد منهما وعملا ، فيكون ذلك الجزء من الربح مقابلا لفضل عمله على عمل صاحبه ، فإن الناس يتفاوتون في العمل ([]).
ولا يخفى على هذا ان شركة العنان هنا شركة ومضاربة وهذا ما صرح به الحنابلة ” فيما إذا دفع إلى المضارب ألفا مضاربة وقال : أضف إليه ألفا من عندك واتجر بها ، والربح بيننا ، لك ثلثاه ، ولي ثلثه جاز وكان شركة وقرضا ([]) وإنما صح هذا العقد لما قاله ابن قدامة ” لأنهما تساويا في المال ، وانفرد أحدهما بالعمل ، فجاز أن ينفرد بزيادة الربح ” ([]).
وجاء في الإنصاف : هذه الشركة تجمع شركة ومضاربة ، فمن حيث إن كل واحد منهما يجمع المال تشبه شركة العنان ، ومن حيث إن أحدهما يعمل في مال صاحبه في جزء من الربح هي مضاربة ([]). إلا أن شركة العنان أو شركة العنان والمضاربة لا تصلح تكييفاً للشركة المتناقصة المنتهية بالتمليك ذلك أن الشركة المتناقصة ليست وكالة من الطرفين ، وليس فيها إطلاق يد كل من الشريكين . وليست هي دفع مال لمن يعمل به حتى تكون مضاربة ، – اللهم إلا إذا اعتبرنا إدارة المشروع عملاً كعمل المضارب وليس هو كذلك – وأيضاً فإن شركة العنان مقصودها التجر والاستثمار لا التمليك .
ومن هذا يتبين أن الشركة المتناقصة ليست شركة عنان من كل وجه ولا هي شركة ملك تامة ؛ لأن الاتفاق أن يتملك الشريك حصة شريكة كما أن الاتفاق تضمن عقود بيع متعاقبة أو استئجار وليس ذلك من شأن شركة الملك ، فلم يبق إلا أن تكون شركة جديدة مستجدة هي شركة تنتهي بتمليك الشريك بطريق البيع كالإجارة المنتهية بالتمليك بطريقة الإجارة . وهي شركة صحيحة وان جمعت بين الشركة وهي عقد غير لازم على رأي الجمهور ، والبيع وهو عقد لازم لخروج ذلك من النهي عن اجتماع عقدين في عقد كعقد بيع وسلف ، أوبيعتين في بيعة ، أو صفقتين في صفقة ، كما لا يظهر من اجتماعهما توسل للربا ، ولا تضاد بين الشركة والبيع حتى يمنع كما هو مذهب المالكية الذين منعوا اجتماع البيع مع الجعالة ، والصرف أو المساقاة ، أو الشركة ، أو النكاح ، أو القرض أو القراض وهو المجمـوع في قولهم : ” جص مشنق ” دلالة على العقود السابقة على الترتيب . ورأي المالكيـة مبناه : أن كل عقدين يتضادان وضعا ويتناقضان حكما ، فإنه لا يجوز اجتماعهما . وقال القرافي : إن العقود أسباب لاشتمالها على تحصيل حكمتها في مسبباتها بطريق المناسبة والشيء الواحد بالاعتبار الواحد لا يناسب المتضادين ، فكل عقدين بينهما تضاد لا يجمعهما عقد واحد ([]) ، لكن جمهور الفقهاء على جواز اجتماع العقود ولو اختلفت أحكامها ، ولذلك جوزوا اجتماع القرض والشركة ، والبيع والإجارة ، أو الإجارة والسلم ، أو الصرف ، أو البيع والسلم ، أو البيع والنكاح . والمشاركة لا يبطلها وعد ملزم للمؤسسة بأن تبيع نصيبها على الشريك إذا دفع قيمة حصتها في رأس المال بالإضافة للربح المتفق عليه بينهما ، فيبيع الشريك نصيبه لشريكه سواء كانت المشاركة المتناقصة شركة أموال أو شركة ملك بينهما وقد عقد ابن عابدين مطلبا فيما إذا اشترى أحد الشريكين جميع الدار المشتركة من شريكه قال : علم من هذا ما يقع كثيرا ، وهو أن أحد الشريكين في دار ونحوها يشتري من شريكه جميع الدار بثمن معلوم ، فإنه يصح على الأصح بحصة شريكه من الثمن ، وهي حادثة الفتوى فلتحفظ ، وأصرح من ذلك في المرابحة في مسألة شراء رب المال من المضارب مع أن الكل ماله ([]) .
وكما جاز أن تجمع الشركة المتناقصة بين الشركة والبيع ، فهي تجمع أيضاً بين البيع والإجارة وهذا جائز أيضاً – كما سبق التنويه – نص على ذلك المالكية والحنابلة ؛ لأن العقدين من العقود اللازمة ، واجتماع العقود اللازمة جائز سواء أكانت متفقة الأحكام ، أو مختلفة إذا استوفت العقود أركانها وشرائطها الشرعية ، وقد وسع في ذلك قرار الندوة الفقهية الخامسة لبيت اللتمويل الكويتي ، حتى شمل الجواز اجتماع العقود المتعددة في عقد واحد ، سواء أكانت هذه العقود متفقة الأحكام أم مختلفة الأحكام ، طالما استوفى كل عقد منها أركانه وشرائطه الشرعية ، وسواء أكانت هذه العقود من العقود الجائزة أم من العقود اللازمة ، أم منهما معاً ، وذلك بشرط ألا يكون الشرع قد نهى عن هذا الاجتماع ، وألا يترتب على اجتماعها توسل إلى ما هو محرم شرعاً ([]) .
فائدة المشاركة المتناقصة المنتهية بالتمليك :
المشاركة المتناقصة من أدوات الاستثمار الحديثة ، ويسع المؤسسات المالية الإسلامية تطبيقها لما تحققه من الغايات ، والفوائد مما لا يتحقق في الشركات المعهودة . مع تضمنها لغاية الشركات عامة من توفير رؤوس الأموال وتوزيع المخاطرة .
فقد يرغب العملاء في ملكية أعيان كمصانع أو مجمعات تجارية ونحوها ولا يجدون من المال ما يكفي لشرائها ، أو قد يلجأون إلى البنوك الربوية للاقتراض ولهم في الشركة المتناقصة منجاة ، فيطلبون من المؤسسة المالية الإسلامية المشاركة في تمويل عقاري أو صناعي أو سكني ، لمدة محدودة ، تؤول للشريك الملكية في نهاية هذه المدة، وفق شروط واتفاقات المشاركة المتناقصة . فتحقق هذه المشاركة تملك العملاء لهذه الأعيان للاستثمار أو التملك .
كما أن المؤسسة المالية الإسلامية قد لا ترغب الاستمرار في المشاركة لئلا تجمد رأس مال مدة طويلة، فعقد المشاركة المتناقصة يحقق لها غايتها في الربح بالإضافة إلى استرداد رأس المال في فترة قد لا تكون بحاجة فيها إلى رأس المال المشارك . كما أن المؤسسة في الوقت ذاته تحقق أرباحاً مستمرة مدة العقد .
فصفة التأقيت ميزة أو فائدة لا تتحقق فيما يقابل الشركة المنتهية بالتمليك وهي الشركة المستمرة أو الدائمة ، إذ لا قصد للاستمرار للطرفين في الشركة المتناقصة ابتداءً ، بل قصد المؤسسة المالية التمويل وأن يحل العميل أو الشريك محلها ، وفي الشركة المعتادة يظل كل شريك محتفظاً بشراكته وتظل الحقوق والواجبات بين الطرفين حتى تنتهي الشركة لانتهاء غرضها أو فسخها ، أو تنتهي لأي سبب من أسباب انتهاء الشركة .
صور وتطبيقات المشاركة المتناقصة المنتهية بالتمليك :
أولاً : المشاركة المتناقصة بتمويل مشروع قائم :
وذلك بأن يقدم العميل للمؤسسة المالية الإسلامية أعياناً يعجز عن تشغيلها كمن يملك مصنعاً لا يستطيع شراء معداته ، فتدخل المؤسسة شريكة معه بقيمة المعدات فتأخذ حصتها من الربح ، وحصة لتسديد مساهمتها في رأس المال . ويتفقان على أن تبيع المؤسسة حصتها دفعة واحدة أو على دفعات ، فتتناقص ملكيتها لصالح الشريك حتى يتم له الملك بسداد كامل الحصة .
ثانياً : المشاركة المتناقصة مع الاستصناع :
وذلك بأن يقدم العميل أرضاً ويطلب من المؤسسة المالية الإسلامية بناءها بعقد الاستصناع ، ويدفع الشريك جانباً من التكاليف . فان احتفظ صاحب الأرض بملكيتها لنفسه وزع الإيراد بين المؤسسة وبين الشريك بالنسب المتفق عليها ، ولصاحب الأرض في هذه الحالة أن يدفع للمؤسسة ثمن حصته في المباني ، إما دفعة واحدة ، أو مقسطة ، ولا يحق للمؤسسة ان تحصل على أية ميزة بسبب ارتفاع الأثمان .
وإذا رأى الشريك إدخال الأرض بقيمتها في المعاملة ، فيكون حينئذ شريكاً للمؤسسة في المباني والأرض وله نصيب من ارتفاع الأثمان ، ويكون صاحب الأرض مخيراً بين أن يبيع أو أن يشتري بسعر السوق (1) .
ثالثاً : المشاركة المتناقصة بطريقة التمويل المصرفي المجمع المشترك :
فتشترك المؤسسة المالية الإسلامية فيما بينها أو مع غيرها في إنشاء أو تمويل مشروع ويتم الاتفاق فيه ابتداء على تخارج مؤسسة أو أكثر لصالح شريك أو أكثر ، وتوزع حصص الأرباح حسب الاتفاق بطريقة المشاركة المتناقصة السابقة .
رابعاً : المشاركة المتناقصة المنتهية بالتمليك مع الإجارة :
بأن يتم التعاقد بين المؤسسة المالية الإسلامية ، والشريك على إقامة مشروع ، مع وعد من الشريك باستئجار العين لمدة محددة ، فتكون صفته في هذه الحال شريكاً مستأجرا ، وتوزع الأرباح حينئذ وفق طريقة المشاركة المتناقصة السابقة حسب اتفاقهما .
خامساً : أن يتفق البنك أو المؤسسة المالية الإسلامية مع متعامله على تحديد حصة كل منهما في رأس مال المشاركة وشروطها ، وهي جائزة شرعاً إذا تم بيع حصص البنك أو المؤسسة إلى المتعامل بعد إتمام المشاركة بعقد مستقل ، بحيث يكون للبنك أو المؤسسة حرية بيع حصصه للمتعامل شريكه أو غيره ، كما يكون للمتعامل الحق في بيع حصته للبنك أو المؤسسة أو لغيره ، وهذا أوضح الصور حيث ينفصل عقد البيع عن عقد الشركة بنحو واضح تماماً ، وهي شبيهة بالصورة الأولى .
سادساً : المشاركة المتناقصة بالتمويل المشترك :
فتتفق المؤسسة الإسلامية المالية مع عميلها على المشاركة في التمويل الكلي أو الجزئي لمشروع ذي دخل متوقع ، وذلك على أساس اتفاق المؤسسة مع الشريك لحصول المؤسسة على حصة نسبية من صافي الدخل المحقق فعلاً مع حقها بالاحتفاظ بالجزء المتبقي من الإيراد أو أي قدر منه يتفق عليه ليكون الجزء مخصصاً لتسديد أصل ما قدمه البنك من تمويل . أي أن هذه الصورة يتم فيها سداد بعض قيمة الحصة من الغلة الناتجة .
سابعاً : المشاركة المتناقصة بالمشاركة بطريقة الأسهم :
يحدد نصيب كل من المؤسسة وشريكها في الشركة في صورة أسهم تمثل مجموع قيمة الشيء موضوع المشاركة ( عقار مثلا ) يحصل كل من الشريكين عل نصيبه من الإيراد المتحقق من العقار .
وللشريك إذا شاء أن يقتني من هذه الأسهم المملوكة للمؤسسة عددا معينا كل سنة بحيث تكون الأسهم الموجودة بحيازة المؤسسة متناقصة إلى أن يتم تمليك شريك المؤسسـة الأسهم بكاملها فتصبح لـه الملكية المنفردة للعقار دون شريك آخر (1) .
ثامناً : المشاركة المتناقصة بطريقة المضاربة :
بأن تدفع المؤسسة المالية الإسلامية كامل رأس المال لمشروع معين ويقدم الشريك العمل والربح بينهما مع وعد من المؤسسة بتمليك المشروع بطريقة المشاركة المتناقصـة ، فهـذه صـورة ” مضاربة منتهية بالتمليك ” (1) وحينئذ ينبغي أن يلتزم بشروط وضوابط المضاربة ، فإن لم يتحقق ربح فلا شيء للمضارب والخسارة على رب المال في رأس المال ، ويخسر المضارب جهده ، وعند تحقق ربح فيقسم بينهما حسب اتفاقهما ، ووعد رب المال تمليك المشروع إذا وفى المضارب بقيمته تدريجيا ، مع نصيب رب المال من الربح لا يؤثر في العقد بالبطلان ، ولو أن المضارب سلم رب المال الربح كله فصورته إبضاع ، وحقيقته أن المضارب يدفع جـزءاً هو ربح رأس المال ، وجزء هو نصيبه من الربح وفاء ، أو شراء لحصة المؤسسة المالية وعلى هذا فالمضاربة المنتهية بالتمليك جائزة لانتفاء مصادمتها لنص أو قاعدة .
ضوابط وشروط المشاركة المتناقصة المنتهية بالتمليك :
بالإضافة إلى جميع الأحكام الشرعية الواردة في أسلوب المشاركة الدائمة ، يجب كذلك مراعاة الأمور التالية :-
1 – يشترط في المشاركة المتناقصة أن لا تكون مجرد عملية تمويل بقرض ، فلابد من وجود الإرادة الفعلية للمشاركة وأن يتحمل جميع الأطراف الربح والخسارة أثناء فترة المشاركة .
2 – يشترط أن يمتلك البنك حصته في المشاركة ملكاً تاماً وأن يتمتع بحقه الكامل في الإدارة والتصرف . وفي حالة توكيل الشريك بالعمل يحق للبنك مراقبة ومتابعة الأداء .
3 – لا يجوز أن يتضمن عقد المشاركة المتناقصة شرطاً يقضي بأن يرد الشريك إلى البنك كامل حصته في رأس المال بالإضافة إلى ما يخصه من أرباح لما في ذلك من شبهة الربا .
4 – يجوز أن يقدم البنك وعداً لشريكه بأن يبيع له حصته في الشركة إذا قام بتسديد قيمتها ، ويجب أن يتم البيع بعد ذلك باعتباره عملاً مستقلاً لا صلة له بعقد الشركة ([]) .
5 – إذا تم الاتفاق على شراء الشريك حصة المؤسسة المالية الإسلامية تدريجياً فيجب تقدير الحصة بقيمتها السوقية ([]) يوم البيع ، وليس بقيمة المشاركة حذراً من الغبن والضرر الذي قد يقع فيه أحد الطرفين ، ومثل ذلك لو رغب الطرفان بفض الشركة قبل أوانها ، فان الشريك يشتري نصيب المؤسسة بالقيمة السوقية .
6 – لابد أن تكون الشركة غير مشترط فيها البيع والشراء ، وإنما يتعهد الشريك بذلك بوعد منفصل عن الشركة ، وكذلك يقع البيع والشراء بعقد منفصل عن الشركة ، ولا يجوز أن يشترط أحد العقدين في الآخر .
7 – يجب أن تطبق على الشركة المتناقصة الأحكام العامة للشركات ، وبخاصة أحكام شركة العنان ، وعليه لا يجوز أن يتضمن عقد الشركة أي نص يعطي أياً من طرفي المشاركة الحق في استرداد حصته من رأس مال الشركة .
8 – يجب أن يقدم كل من الشريكين حصة في موجودات الشركة ، سواء كانت مبالغ نقدية أو أعياناً يتم تقويمها مثل الأرض التي سيقام البناء عليها ، أو المعدات التي يتطلبها نشاط الشركة . وتعتمد حصص الملكية الخاصة لكل طرف لتحميل الخسارة إن وقعت ، وذلك في كل فترة بحسب تناقص حصة أحد الشريكين وتزايد حصة الشريك الآخر .
9 – يجب تحديد النسب المستحقة لكل من أطراف الشركة ( المؤسسة والعميل ) في أرباح أو عوائد الشركة ، ويجوز الاتفاق على النسب بصورة مختلفة عن حصص الملكية ، ويجوز استبقاء نسب الأرباح ولو تغيرت حصص الملكية ، ويجوز الاتفاق بين الطرفين على تغيرها تبعاً لتغير حصص الملكية دون الإخلال بمبدأ تحميل الخسارة بنسبة حصص الملكية .
10 – لا يجوز اشتراط مبلغ مقطوع من الأرباح لأحد الطرفين .
11 – يجوز إصدار أحد الشريكين وعداً ملزماً يحق بموجبه لشريكه تملك حصته تدريجياً من خلال عقد بيع عند الشراء وبحسب القيمة السوقبة في كل حين أو بالقيمة التي يتفق عليها عند الشراء . ولا يجوز اشتراط البيع بالقيمة الاسمية ([]) .
12 – تجوز المشاركة المتناقصة مع إعطاء المؤسسة للشريك حق الخيار في تملك العين في أي وقت يشاء على أن يسدد التزاماته كاملة .
13 – لا تنتقل الملكية من المؤسسة المالية الإسلامية إلى الشريك إلا بعقد مستقل بعد الوفاء بالتزاماته ويجوز للمؤسسة أن تبيع لغيره ، ويكون البيع بسعر السوق.
14 – تحديد أجرة العين سلفاً في المشاركة المتناقصة : قد يعد العميل باستئجار العين محل المشاركة قبل تملّك المنفعة ، فيجوز حينئذ تقدير الأجرة سلفاً بأجرة المثل ، وقد جاء في فتاوى البنك الإسلامي الأردني ما يؤيد ذلك في جوابه على ما يلي :
السؤال : يقوم البنك بتقديم التمويل لبعض العملاء على أساس نظام المشاركة المتناقصة ( المنتهية بالتمليك ) لبناء مشاريع عقارية ويقوم البنك بتأجير هذه العقارات بعد الانتهاء وتوزيع الدّخل بين البنك والمالك حسب عقد المشاركة المتناقصة المبرم مع العميل يطلب العميل ( المعمول له ) في بعض الأحيان وعند تقديم التمويل وتوقيع العقد الخاص به أن يلتزم عند المباشرة في التمويل باستئجار العقار بعد الانتهاء من البناء على أساس تحديد أجرة للمتر المربع من البناء .
فيرجى التّكرم ببيان الرّأي الشرعي حول طلب العميل تحديد الإيجار سلفاً بأجرة المتر المربع للبناء المتفق على إنشائه .
الجواب : بما أنّه يجوز شرعاً تعجيل الأجرة أو تأجيلها وبما أنّ ذلك يعني جواز الاتفاق على تحديدها قبل تسلم المنفعة وبما أنّه يجوز عقد الإيجار على أساس المتر أو الذّراع فإنّ الاتفاق في حالات تمويل المشاركة المتناقصة على تحديد الأجرة على أساس المتر أو الذّراع سائغ شرعاً بمقتضى المادّة 679 من القانون المدني والمادّة 504 من المجلّة المأخوذ حكمها من الفقه الإسلامي لذلك فإن الاتفاق المشار إليه في السّؤال سائغ شرعاً ويجوز الإقدام عليه ([]).
15 – تخلّف الشّريك عن دفع ما عليه : إذا تخلّف الشّريك عن دفع بعض ما عليه من حصة المؤسسة الماليّة الإسلاميّة فتنظره عند العسر إلى ميسرة ، إذا كان لـه عـذر ، وإلاّ فلها الحق في التّنفيذ على الرّهن – إن وجد – واستيفاء حقّها أو الإقالة .
وقد ورد في ذلك فتوى دلّة البركة حيث ورد في فتاواها :
” إذا تخلّف الشريك عن دفع بعض ما عليه من أقساط فللبنك إمّا أن يمضي البيع ويستوفي حقّه في المتبقّي من ثمن المبيع بطريقة التّنفيذ الجبري للرّهن ، أو يفسخ البيع ، ويحتفظ بالملك إذا رضي الشّريك على أن يردّ له ما دفعه ذلك الشّريك حيث يعتبر ذلك إقالة للبيع من الابتداء ([]) .
16 – تطبق أحكام الشّركة طوال مدّة الشّركة فيتحمّل الشّركاء كل ما هو من مئونة الملك ، من الصّيانة والتّأمين وما إلى ذلك ، ولا يجوز تحميل أحد الشريكين تكاليف الصيانة أو التأمين . وإذا تضمّن العقد إجارة فتطبّق أحكام الإجارة مدة الإجارة .
انتهاء عقد المشاركة المتناقصة المنتهية بالتّمليك :
ينتهي عقد المشاركة المتناقصة بما تنتهي به شركات الأموال ، أو الملك من حيث الجملة وما يحتاج إلى ذكر هنا ما يتعلّق بانتهاء المدّة ، فتنتهي المشاركة المتناقصة بانتهاء المدّة المحدّدة في العقد إذ تأقيت الشّركة جائز عند الحنفية والحنابلة ، قال في المغني في شأن المضاربة : ” ويصح تأقيت المضاربة .. قال أبو الخطاب في صحة شرط التأقيت روايتان إحداهما هو صحيح وهو قول أبي حنيفة ، والثانية لا يصح وهو قول الشافعي ومالك واختيار أبي حفص العكبري ومنع من ذلك المالكية والشافعية – كما أشار في المغني – لكن قال التسولي : ” تجوز الشركة لغير أجل لا لأجل – وظاهره أنها إن وقعت لأجل فهي فاسـدة ، أو يقال : هي صحيحة – ولكن لا يلزم البقاء معه إلى ذلك الأجل وهو الظاهر ([]) ” ، والمشاركة المتناقصة شركة مؤقتة بطبيعتها.
فإذا رغب الشّريك إنهاء المشاركة قبل أوانها ، وقبلت المؤسسة الماليّة الإسلاميّة ذلك ، فحقّها ثابت في ربح ما مضى حسب المتفق عليه فلها أن تقبل أو ترفض ؛ لأن الأصل لزوم عقد الشّركة على رأي المالكيّة – عدا ابن رشد وحفيده ومن تابعهما – قال ابن رشد : ” الشركة من العقود الجائزة لا من العقود اللازمة أي لأحد الشريكين أن ينفصل من الشركة متى شاء ([]) – ويستمر هذا اللّزوم إلى أن ينض المال ، أو يتم العمل ، أو يتفقا على إنهائها ؛ قال خليل :” ولزمت بما يدل عرفاً ” كاشتركنا ، أو فعل كخلط المالين والتجر فيهما ، فلو أراد أحدهما المفاصلة فلا يجاب إلى ذلك مطلقاً، ولو أراد نضوض المال بعد العمل ، فينظر الحاكم كالقراض كذا ينبغي ([]) ، ونضوض المال يمكن أن يكون حكميّاً كما هو واقع الشّركات اليوم ، وقد استظهر بعض الحنابلة القول أيضاً بلزوم شركة الأعمال بعد التّقبل ، والقول باللّزوم ، وإن كان خلاف رأي الجمهور([]) إلاّ أنّه الرّاجح في رأينا خاصة لمناسبته لطبيعة الشّركات في هذا العصر .
وإذا قبلت المؤسسة إنهاء العقد فحقّها ثابت في ربح ما مضى حسب المتّفق عليه ، وليس لها الحق في مطالبة العميل عن المدّة الباقية .
وهذا ما أفتت به هيئة الرّقابة الشّرعيّة في البنك الإسلامي الأردني جواباً لسؤال عن حكم ما إذا رغب العميل بتصفية المشاركة المتناقصة قبل انتهاء مدّة العقد .
فقد جاء الجواب : بأنّه في حالة رغبة العميل بتصفية المشاركة قبل انتهاء مدّة العقد ، فليس للبنك استيفاء أرباحه المتّفق عليها والمتوقّعة عن طيلة فترة العقد للأسباب التالية :
1 ) العميل ليس لـه الحق بتصفية الشّركة إلاّ إذا وافق البنك وفي حالة موافقته يكون العقد قد فسخ ولا يترتب عليه أي حكم ولا يستحق البنك حينئذٍ ما بقي له من أصل التّمويل لأنّ كل زيادة تعتبر ربا.
2) إذا كانت مصلحة البنك لا تقتضي فسخ العقد ولم يوافق على الفسخ فالعقد باق وله الحق في استيفاء النّسبة المتّفق عليها من الأرباح.
3) ما دام البنك هو الذّي يستوفي الدّخل فهو يستوفي حصّته النّسبيّة من الرّبح وبذلك لا يبقى لـه أرباح متّفق عليها وأمّا الأرباح المتوقّعة فقد سقط حق البنك فيها إذا وافق على فسخ العقد وتصفية الشّركة ولا وجه حينئذ لإلزام الشّريك بأي ضمان ولا بأي مبلغ زائد عمّا بقي للبنك من أصل المبلغ المدفوع للتمويل لأنّ ذلك الزّائد ربا وموجب للغرر ، ويستوجب النّزاع وهو ممنوع ومنهي عنه شرعاً ([]) .
تخارج المؤسسة مع الشريك :
تخارج المؤسسة مع الشريك ، أو مع شركائها ، مؤسسات ، أو أفراداً جائز لها ولغيرها من الشركاء ، والأنسب مذهب المالكية في لزوم الشركة فإن التخارج في أي وقت على رأي الجمهور مفسد للشركات بصورتها المعاصرة ، والمؤسسات المالية الإسلامية اليوم تسير على رأي المالكية ، فلا تسمح بالتخارج إلا بالتراضي وبشروط معينة تتناسب وطبيعة الشركات ، ومدتها ، وطبيعة نشاطها ، وهذا اللزوم لا يمنع من تنظيم عمليات التخارج ، وفق شروط يتم الاتفاق عليها ابتداءً تحقق قدراً من عدم اللزوم .
وعلى هذا فالتخارج في الشركة المتناقصة لا يضير العقد في شيء ، مادام متفقاً عليه ، وفق ضوابط ومدد ، إذ غرض المشاركة ابتداءً هو خروج أحد الأطراف لصالح غيره .
ملخص البحث
تعريف المشاركة المتناقصة المنتهية بالتّمليك :
شركة يعطى فيها أحد الشّركاء الحق لشريكه في الحلول محلّه في ملكيّة نصيبه في عين ، دفعة واحدة ، أو على دفعات ، وذلك بتجنيب جزء من الدّخل لسداد أصل ما قدّمه الشّريك المموّل ، مع حصّة نسبيّة من صافي الدّخل ، حسبما يتّفقان عليه . وهي من أدوات الاستثمار الحديثة تحقق مقاصد شرعيّة معتبرة تعود فائدتها على الشّركاء كما تتضمن تنمية اجتماعية عامة .
التّكييف الشّرعي للمشاركة المتناقصة المنتهية بالتمليك :
المشاركة المتناقصة المنتهية بالتّمليك شركة تشبه شركة أموال أو شركة ملك حسب مقصد الاستثمار أو التمليك ، وهي عقد شركة مستجدة تجمع بين شركة وبيع ، وهما مما يجوز اجتماعهما ، إذ لا تضاد بينهما ، ولا شبهة في التوسل باجتماعهما لمحرّم . والاتفاق أو الوعد على أن يبيع الشّريك – وهو المؤسسة الماليّة الإسلاميّة الممولة – نصيبها على الشّريك إذا دفع حصّة شريكه في رأس المال ونسبة الرّبح المتفق عليها ، جائز ..
صور وتطبيقات المشاركة المتناقصة المنتهية بالتّمليك :
أولاً : المشاركة المتناقصة بتمويل مشروع قائم :
وذلك بأن يقدم العميل للمؤسسة الماليّة الإسلاميّة ، أعياناً يعجز عن تشغيلها كمن يملك مصنعاً لا يستطيع شراء معدّاته ، فتدخل المؤسسة شريكة معه بقيمة المعدّات ، فتأخذ حصّتها من الرّبح ، وحصّة لتسديد مساهمتها في رأس المال . ويتفقان على أن تبيع المؤسسة حصّتها دفعة واحدة أو على دفعات ، فتتناقص ملكيّتها لصالح الشريك حتّى يتم له الملك بسداد كامل الحصّة .
ثانياً : المشاركة المتناقصة مع الاستصناع :
وذلك بأن يقدّم العميل أرضاً ويطلب من المؤسسة الماليّة الإسلاميّة بناءها بعقد الاستصناع : ويدفع الشّريك جانباً من التّكاليف . فإن احتفظ صاحب الأرض بملكيّتها لنفسه ، وزع الإيراد بين المؤسسة وبين الشريك بالنّسب المتفق عليها ، ولصاحب الأرض في هذه الحالة أن يدفع للمؤسسة ثمن حصّته في المباني، إمّا دفعة واحدة ، أو مقسطة ، ولا يحق للمؤسسة أن تحصل على أيّة ميزة بسبب ارتفاع الأثمان.
وإذا رأى الشّريك إدخال الأرض بقيمتها في المعاملة ، فيكون حينئذ شريكاً للمؤسسة في المباني والأرض ،وله نصيب من ارتفاع الأثمان ، ويكون صاحب الأرض مخيّراً بين أن يبيع أو أن يشتري بسعر السّوق .
ثالثاً : المشاركة المتناقصة بطريقة التّمويل المصرفي المجمع المشترك :
فتشترك المؤسسات الماليّة الإسلاميّة فيما بينها أو مع غيرها في إنشاء أو تمويل مشروع ويتم الاتفاق فيه ابتداء على تخارج مؤسسة أو أكثر ، لصالح شريك أو أكثر ، وتوزّع حصص الأرباح حسب الاتفاق بطريقة المشاركة المتناقصة الساّبقة .
رابعاً : المشاركة المتناقصة المنتهية بالتّمليك مع الإجارة :
بأن يتم التّعاقد بين المؤسسة الماليّة الإسلاميّة ، والشّريك على إقامة مشروع ، مع وعد من الشّريك باستئجار العين لمدة محددة ، فتكون صفته في هذه الحال شريكاً ومستأجراً . وتوزع الأرباح حينئذ وفق طريقة المشاركة المتناقصة السابقة وحسب اتفاقهما .
خامساً : أن تتفق المؤسسة مع العميل على تحديد حصة كل منهما في رأس مال المشاركة وشروطها ، ثم تبيع المؤسسة للعميل بعقد مستقل .
سادساً : المشاركة المتناقصة بالتّمويل المشترك :
فتتفق المؤسسة المالية الإسلاميّة مع متعاملها على المشاركة في التمويل الكلي أو الجزئي لمشروع ذي دخل متوقع وذلك على أساس اتفاق المؤسسة مع الشريك الآخر لحصول المؤسسة على حصة نسبية من صافي الدخل المحقق فعلاً مع حقه بالاحتفاظ بالجزء المتبقي من الإيراد أو أي قدر منه يتفق عليه ليكون ذلك الجزء مخصصاً لتسديد أصل ما قدمه البنك من تمويل .
سابعاً : المشاركة المتناقصة بالمشاركة بطريقة الأسهم :
يحدد نصيب كل من المؤسسة وشريكها في الشركة في صورة أسهم تمثل مجموع قيمة الشيء موضوع المشاركة (عقار مثلاً) يحصل كل من الشريكين على نصيبه من الإيراد المتحقق من العقار.
وللشريك إذا شاء أن يقتني من هذه الأسهم المملوكة للمؤسسة عدداً معيّناً كل سنة بحيث تكون الأسهم الموجودة بحيازة المؤسسة متناقصة إلى أن يتم تمليك شريك المؤسسة الأسهم بكاملها فتصبح له الملكية المنفردة للعقار دون شريك آخر .
ثامناً : المشاركة المتناقصة بطريقة المضاربة :
بأن تدفع المؤسسة المالية الإسلامية كامل رأس المال لمشروع معين ويقدم الشريك العمل والربح بينهما مع وعد من المؤسسة بتمليك المشروع بطريقة المشاركة المتناقصـة ، فهـذه صـورة ” مضاربة منتهية بالتمليك ” .
ضوابط وشروط المشاركة المتناقصة المنتهية بالتمليك :
بالإضافة إلى جميع الأحكام الشرعية الواردة في أسلوب المشاركة الدائمة والتي تنطبق هنا في المشاركة المتناقصة ، يجب كذلك مراعاة الأمور التالية :-
1 – يشترط في المشاركة المتناقصة أن لا تكون مجرد عملية تمويل بقرض ، فلابد من وجود الإرادة الفعلية للمشاركة وأن يتحمل جميع الأطراف الربح والخسارة أثناء فترة المشاركة .
2 – يشترط أن يمتلك البنك حصته في المشاركة ملكاً تاماً وأن يتمتع بحقه الكامل في الإدارة والتصرف . وفي حالة توكيل الشريك بالعمل يحق للبنك مراقبة ومتابعة الأداء .
3 – لا يجوز أن يتضمن عقد المشاركة المتناقصة شرطاً يقضي بأن يرد الشريك إلى البنك كامل حصته في رأس المال بالإضافة إلى ما يخصه من أرباح لما في ذلك من شبهة الربا .
4 – يجوز أن يقدم البنك وعداً لشريكه بأن يبيع لـه حصته في الشركة إذا قام بتسديد قيمتها ، ويجب أن يتم البيع بعد ذلك باعتباره عملاً مستقلاً لا صلة له بعقد الشركة .
5 – إذا تم الاتفاق على شراء الشريك حصة المؤسسة المالية الإسلامية تدريجياً فيجب تقدير الحصة بقيمتها السوقية يوم البيع ، وليس بقيمة المشاركة حذراً من الغبن والضرر الذي قد يقع فيه أحد الطرفين ، ومثل ذلك لو رغب الطرفان بفض الشركة قبل أوانها ، فان الشريك يشتري نصيب المؤسسة بالقيمة السوقية .
6 – لا يجوز اشتراط البيع والشراء في عقد الشركة ، وإنما يكون في عقد منفصل، كما لا يجوز أن يشترط أحد العقدين في الآخر .
7 – لا يجوز أن يتضمن عقد الشركة أي نص يعطي أياً من طرفي المشاركة الحق في استرداد حصته من رأس مال الشركة .
8 – يجب أن يقدم كل من الشريكين حصة في موجودات الشركة ، سواء كانت مبالغ نقدية أو أعياناً يتم تقويمها .
9 – يجب تحديد النسب المستحقة لكل من أطراف الشركة في أرباح أو عوائد الشركة ، ويجوز الاتفاق على النسب بصورة مختلفة عن حصص الملكية .
10 – لا يجوز اشتراط مبلغ مقطوع من الأرباح لأحد الطرفين .
11 – يجوز إصدار أحد الشريكين وعداً ملزماً يحق بموجبه لشريكه تملك حصته تدريجياً من خلال عقد بيع عند الشراء وبحسب القيمة السوقية في كل حين أو بالقيمة التي يتفق عليها عند الشراء . ولا يجوز اشتراط البيع بالقيمة الاسمية .
12 – تجوز المشاركة المتناقصة مع إعطاء المؤسسة للشريك حق الخيار في تملك العين في أي وقت يشاء على أن يسدد التزاماته كاملة .
13 – لا تنتقل الملكية من المؤسسة المالية الإسلامية إلى الشريك إلا بعقد مستقل بعد الوفاء بالتزاماته ويجوز للمؤسسة أن تبيع لغيره ، ويكون البيع بسعر السوق.
14 – تحديد أجرة العين سلفاً في المشاركة المتناقصة : قد يعد العميل باستئجار العين محل المشاركة قبل تملّك المنفعة ، فيجوز حينئذ تقدير الأجرة سلفاً بأجرة المثل .
15 – تخلّف الشّريك عن دفع ما عليه إذا تخلّف الشّريك عن دفع بعض ما عليه من حصة المؤسسة الماليّة الإسلاميّة فتنظره عند العسر إلى ميسرة ، إذا كان لـه عـذر ، وإلاّ فلها الحق في التّنفيذ على الرّهن – إن وجد – واستيفاء حقّها أو الإقالة .
16 – تطبق أحكام الشّركة طوال مدّة الشّركة فيتحمّل الشّركاء كل ما هو من مئونة الملك ، من الصّيانة والتّأمين وما إلى ذلك ، ولا يجوز تحميل أحد الشريكين تكاليف الصيانة أو التأمين . وإذا تضمّن العقد إجارة فتطبّق أحكام الإجارة مدة الإجارة .
انتهاء عقد المشاركة المتناقصة المنتهية بالتّمليك :
ينتهي عقد المشاركة المتناقصة بما تنتهي به شركات الأموال ، أو الملك من حيث الجملة ، وهي عقد لازم فلا تنتهي إلا بالتنضيض ، أو رضى الطرفين.
تخارج المؤسسة مع الشريك :
تخارج المؤسسة مع الشريك ، أو مع شركائها ، مؤسسات ، أو أفراداً جائز لها ولغيرها من الشركاء ، والأنسب مذهب المالكية في لزوم الشركة ، فلا تخارج إلا باتفاق ورضى الطرفين .
والحمد لله رب العالمين